
…………………………..
قصة ” بعد ظهر دمشقي ” للمبدع سعد الله ونوس، قرأتها في سياق رسالة كتبها المبدع سعد الله ونوس الى النحاث الشهير عاصم الباشا. الرسالة قرأتها من صفحة الصديق عبد الكريم عمرين. الرسالة تذكرنا بالكبار، شعرت وانا اقرأها أنني اقرا لديسيوفيسكي او همنغواي أو ماركيز. وأنا اقرأها شعرت بما يشعر به تائه في الصحراء وقد اهتدى لجرة ماء باردة. قرأت القصة ” بعد ظهر دمشقي” ووقفت مطولا افتش عن معنى او كلمة ترشدني للتعبير عما قرأت. القصة، ربما لم تلفت انتباه احد، ولكنها جعلتني أشك أنني أقرأ لتشيخوف في واقعيته وعمقه، ولكافكا في غرائبيته وتشاؤمه وبحثه الدؤوب في الاعماق الانسانية. قصة مكونة من 468 كلمة، ولكن عمق وثقافة وابداع سعد الله ونوس جعلها كتاب مفتوح، نص مفتوح على دلالات غاية في العمق، ورؤية وبصيرة تستشرف الغامض في المستقبل
قصة يرتقي بها سعد الله ونوس من المحلية الى العالمية، عبر وصفة بضعة دقائق من حياة موظف عادي مع زوجته يدخلان غرفة النوم بعد ظهر يوم قائظ في مدينة دمشق.
الرجل والمرأة اقرب الى البدانة. يجلس الرجل على حافة السرير يدخن ويتجشأ، ويقول كلاما مكرورا، يكرره ربما كل يوم. يدخن ويتجشأ ويردد كلاما اعتاد ان يقوله كل يوم. يضعنا سعد الله ونوس امام حالة لرجل يكرر افعاله واقواله الى درجة جعلت زوجته تشعر باملل والضجرمنذ السطر الاول. بينما تتربع المرأة على السرير وتستخدم الملقط في نتف بضع شعرات نبتت على ساقها، وتكرر بدورها كلاما مكرورا كل يوم ترد به على كلام زوجها المعاد دائما. يتبادلان حالة من الضجر والملل يجعل كل شيء بلا معنى، لأن التكرار اليومي الذي سببه الخواء يجعل الاشياء تفقد قيمتها، والكلام بلا معنى.
ثم ينتقل بنا الكاتب الى المشهد، الذي اعتبره رئيسيا، ممارسة الجنس. يسبق المشهد الجنسي حالة يضعنا خلالها الكاتب على عتبة ما سنراه لاحقا، هي دخول ذبابة الى الغرفة. في يوم قائظ، الرجل يدخن، يقول كلاما مملا، المرأة تواصل نتف شعر ساقها وترد عليه بكلام معاد ومكرر، الذبابة تحوم في فضاء الغرفة وتئز، يتدفق صوت نسائي بالدلع والغناء “” ما شربش الشاي. أشرب أزوزة أنا “.
دون ان يلتفت اليها يضع الرجل يده على فخذها ايذانا ببدء المشهد الجنسي بعد ان اطفأ سيجارته. “وينبطح فوقها. تغمغم الزوجة: “ألا تعتقد أننا نكثر “. يدمدم الرجل من بين أسنانه: ” وماذا نفعل “. يعمّ صمت رخو لا يخدشه إلاّ أزيز ذبابة وحيدة. ترتفع إليتا الرجل ، تهويان. ترتفع إليتا الرجل،، تهويان”
يتابع الكاتب وصف المشهد الجنسي بتمهل. شعرت أنني أمام روبوت، اله ميكانيكية تقوم بعمل روتيني، كأن تصنع برغيا أو بابا وفق برنامج معد مسبقا وموجد في الالة. هذه الرتابة في بداية المشهد تنتقل الى الفعل الجنسي، وتشارك الذبابة في المشهد عبر وقوفها على جسد الرجل وغرز ابرتها في ظهره. لقد حول الابداع المشهد الجنسي، الذي من المفترض أنه مشهد مشوق لجميع بني البشر ومشهد مثير ومحبب لاي انسان عاقل وعادي، الى مشهد مقرف ومضجر وملل ويدعو الى الاقياء. حول الحركة الايقاعية الجنسية الميئة بالرغبة والشهوة والمحفزة على الفعل الجنسي والتي تشكل جوهره الى حركة الية بطيئة وبليدة خالية من الحياة، تشبه الى حد بعيد الروبوت. هذا المشهد جعل الذبابة تشعر بالتقزز والحزن وهي واقفة على المصباح الكهربائي وتنظر الى الاسفل حيث الرجل وهو يرتفع ويهبط على المرأة وفق حركة ايقاعية مقرفة. هذا المشهد جعل الذبابة تطير وتبحث عن مخرج. تنتهي القصة بانتهاء المشهد، ولا نسمع صوت المرأة ولكن نسمع شخير الرجل.
اي قرف هذا، واي خواء يعيشه هذا الرجل، الذي يشكل او يمثل الاغلبية الساحقة من الشعب. نحن امام مجتمع يعيش حالة خواء كاملة، خواء مصدره حياة تافهة لا قيمة لها. حياة بلا هدف وخالية من اي عنصر من عناصر الجمال. حياة رتيبة ومملة، تتوسل اشباع الغريزة وفق الية حيوانية، يجوع ثم يأكل، يتخم ويتجشأ. يتوتر فيزيائيا فيطأ زوجته. اشباع لغرائز وفق ايقاع ممل، كما تفعل الحيوانات.
لم نر الفارق الذي يميز الانسان عن الحيوان في اشباع الغرائز. هل هناك فارق؟ بالتأكيد، وفارق جوهري، هو ما يجعل الانسان انسانا. هو البعد الانساني في المشهد الجنسي. التفاعل بين الرجل والمرأة، الحميمية واللمسات الانسانية، التي تختلف وتتنوع بتنوع الناس واختلافهم. دائما هناك بعدا انسانيا حتى في غريزة الطعام. الجلوس الى مائدة الطعام، وطريقة تناول الطعام وكل التفاصيل التي تختلف من عائلة الى اخرى ومن شعب الى اخر، تجعل للغريزة بعدا انسانيا.
القصة ابرزت الجانب الحيواني بسبب الخواء الانساني، والتفاهة في حياة الناس. هذه التفاهة تتعزز بغياب الجمال وقيمه، بغياب البعد الروحي في حياة الناس والتي تسمتد من الموسيقا والادب والفنون جميعها.
……………..
قصة “بعد ظهر دمشقي”
” “يجلس الرجل على حافة السرير، ويشعل سيجارة. بينما تتربّع المرأة فوق السرير، وتبدأ تنتف بالملقاط شعرات متناثرة على ساقيها البيضاوين. يتجشأ الرجل. يقول: “أكلت إلى حد التخمة”. بعد صمت قصير، تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها:: “كل يوم تقول أكلت إلى حد التخمة”. يمج الرجل سيجارته، ويقول باندفاع: ” خَلَص.. غدًا سأبدأ رجيمًا صارمًا “. بعد صمت قصير تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها : ” كل يوم تقول خلص.. غدًا سأبدأ رجيمًا صارمًا “. يقول الرجل بضيق: ” وأنتِ.. هل تمسكين علي دفترًا بما أقول طز بعد صمت قصير، تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها: ” كل يوم تقول وأنتِ هل تمسكين علي دفترًا بما أقول “.
ينفخ الرجل مجّة الدخان الأخيرة وكأنه يتنهد . يطفىء السيجارة في المنفضة الكائنة على الكومدينة . يمد يده. يفتح الراديو. يتدفق صوت نسائي بالدلع والغناء “” ما شربش الشاي. أشرب أزوزة أنا “. يهتز الهواء الحار في الغرفة، وتحوم ذبابة حُبست معهما. يدير الزر، ويخفض الصوت.. يحرك المؤشر مغيّرًا المحطة. ينبعث صوت مذيع: ” دعا الأمين العام للجامعة العربية”. يغيّر الرجل المؤشر. تنداح في فضاء الغرفة دقات ساعة “بيغ بن”. تتطاول الدقات، وكأنها لن تنتهي . يغلق الرجل الراديو بحركة عصبية، ثم يمد يده، ودون أن يلتفت إلى فخذ امرأته. يتحسّس نعومة الفخذ بحركة آلية وفاترة. تقول الزوجة، وهي تنتف شعرة من ساقها الأخرى: “أجّلها إلى الليل”. يجيب الرجل، ودون أن يلتفت : ” لا.. في الليل يسرقنا التلفزيون”. تضع المرأة الملقاط تحت المخدة. ترفع عجيزتها بحركة آلية، وتخلع سروالها. تتمدّد على ظهرها، وتفرج ساقيها. يخلع الرجل بنطلون البيجاما، وسرواله العريض الفردتين. يمسك ثدي امرأته، وينبطح فوقها. تغمغم الزوجة: “ألا تعتقد أننا نكثر “. يدمدم الرجل من بين أسنانه: ” وماذا نفعل “. يعمّ صمت رخو لا يخدشه إلاّ أزيز ذبابة وحيدة. ترتفع إليتا الرجل ، تهويان. ترتفع إليتا الرجل،، تهويان. تغرز الذبابة خرطومها في ظهر الرجل المغطى بالعرق والدهن. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. تطير الذبابة، وتحط على المصباح الكهربائي المتدلي من السقف. تنظر من أعلى. ترتفع إليتا الرجل. تهويان. تشعر الذبابة بالتقزّز والحزن. تطير محوّمة وباحثة عن مخرج . ترتفع إليتا الرجل. تهويان . يحشرج بصوت مخنوق أه..أه..أه.. لا يند عن المرأة أي صوت. ويظل الصمت الرخو مخيمًا على الغرفة. ينهض الرجل عن المرأة. يرتدي سرواله وبنطلون بيجامته. يتجه نحو الباب. يخرج من الغرفة. تشعر الذبابة بالفرح، وهي تطير عبر الباب المفتوح. تنقلب المرأة على جنبها الأيسر، وتغمض عينيها. بعد قليل يتناهى من داخل البيت صوت اندفاع الماء، بعد فتح سيفون المرحاض. تعوم الضجة في صمت الغرفة وفراغها، كفقاعة صابونية كبيرة. يعود الرجل إلى الغرفة. يتحول صوت الماء الذي يملأ خزان المرحاض إلى خرير يتخافت. تصغر الفقاعة الصابونية حتى تتلاشى. يتجشأ الرجل عدة مرات. يتمدد على الطرف الثاني من السرير مديرًا ظهره للمرأة. بعد قليل يخدش الصمت، وبشقوق متوازية، شخير منتظم ورتيب “…