لم تقنع المعركة التي فتحهاحزب الله ” ضد إسرائيل في اليوم التالي لهجوم “حماس” على محيط قطاع غزة أحداً في لبنان سوى جمهور الحزب نفسه الذي تحكمه ولاءات تتعدى المجال الوطني لتشكل خليطاً من العصبية المذهبية والارتباطات المصلحية والرؤى الماورائية.
ينضم إلى هذا الجمهور شرائح من أصول قومية ويسارية تتبنى تاريخياً مبدأ “مواجهة الإمبريالية والصهونية من دون أخذ في الاعتبار واقع الصراع وأولويات المصلحة الوطنية في ضوء موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
تحت سقف المواجهة مع أميركا
يلتئم أنصار ملالي طهران وورثة العداء للإمبريالية، ومنهم الذين يعدون روسيا نسخة منقحة عن الاتحاد السوفياتي وتستثير فيهم الصين حنيناً إلى معسكر اشتراكي بائد. هؤلاء جميعاً يرون في ايران طليعة وقيادة موثوقة في المعركة الشاملة ضد “الاستكبار العالمي”، فيما ترى فيهم طهران أدوات متقدمة خارج الحدود للدفاع عن أمنها القومي.
لعل أفضل وصف لهذه العلاقة بين إيران ومريديها هو ما شرحه الكاتب السياسي الإيراني حسن بهشتي بور في الثالث من فبراير (شباط) الجاري في صحيفة “ستارة صبح” بقوله إن “القيادة السياسية (في طهران) تتبع نظرية أن أفضل دفاع هو مهاجمة العدو، مما أدى إلى وجود إيران في دول مثل سوريا والعراق وأفغانستان واليمن ولبنان”، هذا الوجود طورته طهران على مدى سنوات، وهو إذ كان يرتكز على بناء ميليشيات خارج أطر السلطة، تحول إلى دمج تلك الميليشيات في الأنظمة القائمة أو عبر الانقلاب عليها.
ففي العراق ولبنان شيء من هذا النوع يتعدى مشاركة الميليشيات في السلطة إلى حد سيطرتها عليها بعد شلها. وفي اليمن انقلاب شامل على الشرعية لمصلحة أقلية مذهبية، ثم في سوريا استنفار لدعم النظام والحفاظ على القبضة الإيرانية في بلاد تعدها طهران الحلقة الذهبية في مسلسل دول النفوذ.
تسمح طهران لنفسها بالقول، بحسب بهشتي، بور إن “الوجود الإيراني في دول المنطقة يتم بناءً على التنسيق مع الحكومات القائمة. ولهذا يمكن القول إنه ليس تدخلاً في شؤون الدول، بل هو عمل استشاري تشاوري”.
ليس ذلك مهماً فالحضور الإيراني الذي يوفره الحرس الثوري وميليشياته “لا يمكن تقييمه إلا عبر النتائج العملية التي صبت في مصلحة الأمن القومي الإيراني وطهران”، بحسب الكاتب السياسي حسن بهشتي.
الحكاية تبدأ وتنتهي هنا، والباقي تفاصيل. من هذه التفاصيل معركة الحدود اللبنانية التي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 200 لبناني، بينهم نحو 190 عنصراً في “حزب الله”، ودمرت مئات المنازل والقرى وشردت أكثر من 100 ألف مواطن وأوقعت خسائر تفوق مليار دولار.
لم تكن هذه الحرب المستمرة ضرورية في توقيتها وأهدافها في وجود قرارات دولية تشرف على تنفيذها قوات الأمم المتحدة بدعم من الجيش اللبناني. لم تكن المبررات اللبنانية البحت حاضرة أو كافية أو مقنعة لخوضها، كما أنه تبين أن لا فائدة منها، جدية تكسبها غزة. فقبل أن يتحول الجنوب اللبناني إلى جبهة مساندة مفتوحة كان يجدر بالنظام السوري، صاحب الخطاب التاريخي في التحرير، والذي يعد فلسطين جنوباً لسوريا أن يسارع إلى فتح جبهة الجولان الخاصة به لتحريرها، وكان يفترض أن تخوض الضفة الغربية انتفاضة شاملة، وأن ينزل عرب فلسطين 48 في تظاهرات تسد أفق حيفا ويافا وتل أبيب.
لم يحصل شيء من ذلك على تلك الجبهات عدا المواجهات المعتادة في الضفة مع القوات الإسرائيلية. فقط، اندلعت حرب تبادل الدمار في الجنوب اللبناني في تجربة تستعيد “حرب تموز” واحتمالاتها ومشهدها (يوليو 2006). وبدأت تلك الحرب بمحاولة اختطاف عسكريين إسرائيليين لمبادلتهم بمحتجزين لدى تل أبيب، وانتهت بدمار عميم في لبنان وآلاف القتلى.
حتى مسألة تبرير التبادل لم ترد هذه المرة. انطلقت الحرب تحت عنوان دعم غزة، واستمرت من دون أفق سياسي. شعارها الوحيد وقف الحرب في القطاع بغياب أي مطلب لبناني صريح، بما في ذلك تحرير مزارع شبعا وكفرشوبا وتثبيت الحدود نهائياً، فهذه المطالب بدأت ترد على لسان الوسطاء الذين يسعون إلى التهدئة أكثر مما تذكر على لسان أصحاب المعركة من اللبنانيين.
إنها أقرب لأن تكون حرباً بدوافع أيديولوجية مضبوطة تعيدنا إلى السؤال الأساس عن موقع الأمن القومي الإيراني فيها من منطلق أن من يخوضها “قراره وسلاحه وتموينه وماله وعتاده ومأكله وشربه” من طهران، على حد قول الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، لكنها حرب مكلفة، ويبدو أنها ستكلف أكثر مما كلفته حرب 2006 إذا انتهت مناوشاتها الراهنة إلى انفجار كبير. ولا تخفي القيادة الإسرائيلية نواياها في هذا الصدد. هي تستعد لحرب مدمرة تحت عنوان إعادة مستوطنيها إلى الشمال وضمان أمنهم. وتعلن في تحذيرات متراكمة أن بيروت قد تصبح غزة ثانية.
يقدم الكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان صورة كارثية لما سيكون عليه الوضع عندما تطلق حكومته الشرارة “سيقوم سلاح الجو بتدمير المطارات المدنية والعسكرية كلها، والجسور والموانئ ومحطات توليد الطاقة، وسيجري فرض حصار بحري، وسينزح ملايين اللبنانيين. سلاح البر الإسرائيلي سيقوم بمناورة برية طويلة الأمد في مناطق عدة من لبنان”، وغيره.
لا يكشف ميلمان القريب من دوائر الأمن الإسرائيلي ومؤلف كتاب “الجواسيس الناقصون: تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية”، عن جديد صادم. هو يستعرض حرفياً ما جرى في “حرب تموز”، مع إشارة إضافية إلى دور أبرز للقوات البرية، بل إن الكاتب نفسه لا ينكر إمكانات الرد المدمرة لدى “حزب الله”، ويفضل تسوية هادئة من دون حروب كبرى، لكن المشكلة تكمن في طبيعة هذه التسوية وموقف الطرفين المعنيين بها. إسرائيل من جهة و”حزب الله”، ومن ورائه إيران من جهة أخرى. عملياً، تقود الولايات المتحدة المفاوضات بين الطرفين، بموازاة المفاوضات من أجل هدنة في غزة. ضغطت أميركا على إسرائيل لمنع الانفجار الكبير فيما فرنسا تساعد في نقل الرسائل وتأمل أن تؤدي تسوية في غزة إلى حل في الجنوب اللبناني وانتخاب رئيس للجمهورية في بيروت.
فرنسا “تدرك أن الولايات المتحدة تحمل مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط، وعلى المدى القصير بإمكان فرنسا ولأميركا تنسيق جهودهما في شأن لبنان، فهما تتفقان على ضرورة تجنب اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و(حزب الله)، وبناءً على ذلك سعت إلى تسوية موقتة على الحدود تتضمن انسحاب (حزب الله) وبعض الترتيبات المرتبطة بالأراضي وتعزيز سلطة الجيش والقوات الدولية”.
وكتبت الدبلوماسية في الخارجية الفرنسية سيلين أويسال هذا التحليل لـ”معهد واشنطن” قبل أيام، وختمت في رسالة صريحة بأنه “في المرحلة المقبلة، يجب أن يتمثل الهدف في ضمان أن الوساطة التي تقودها أميركا تمنح النخب الحاكمة في بيروت حافزاً لملء الفراغ (الرئاسي) بدلاً من تقديم ذريعة أخرى لتبرير المأزق الراهن”.
“إنها فرصة ستضيع إذا سئمت واشنطن من الخدع السياسية في بيروت وقررت إنفاق طاقتها حصرياً على اتفاق حدودي”، وفق ما ذكرته الدبلوماسية الفرنسية.
يعني ذلك كثيراً بالنسبة إلى لبنان. الاتفاق الحدودي بصيغته الإسرائيلية التي ينقلها الوسطاء يعني إبعاد “حزب الله” عن الحدود، وهذا ما يرفضه الحزب المذكور صراحة، إذ إنه ينهي دوره ومبررات وجوده كحزب مسلح. مع ذلك، السؤال عن اليوم الجنوبي التالي لن يطول جوابه. في الظرف الراهن، إما تسوية موقتة تتيح لإسرائيل و”حزب الله” العودة للاقتتال في وقت لاحق، وإما استعادة للدولة ومؤسساتها، وهو ما تريده غالبية اللبنانيين اللذين يقفون غاضبين أمام المجازر الإسرائيلية في غزة ويخشون تكرارها في بلدها المتشوق لقيام دولة المؤسسات والقانون، وهذا سيكون أكبر الانتصارات على إسرائيل ومشاريعها .