صباح 8 تشرين الأول (أكتوبر) دخل أربعة من قادة “الوحدة 8200” السابقين إلى مقر الوحدة، وبعد بضع ساعات، خرج اثنان منهم مصدومين. القائد الحالي “ي” لم يعلم بخطط “حماس” وتجاهل الاستخبارات البشرية والإنذار الواضح.
كان ذلك في الصباح الأول بعد هجوم 7 تشرين الأول. قليلون فهموا حينها حجم الكارثة وقوة الهزيمة وأبعاد الفشل. اتصل “ي” بأسلافه للتشاور معهم، أرادهم أن يأتوا أثناء الليل، ولكنهم لم يطلوا قبل صباح اليوم التالي.
في تحقيق مفصل نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، أشار الصحافي بن كاسبيت إلى أن اللقاء استمر ساعات، دخلوه فريقاً واحداً وتركوه فريقين متعارضين. يعتقد اثنان منهم أنه لم يكن هناك فقط تجاهل لا مثيل له، وهفوة لا مغفرة لها، بل يعتقدون أيضاً أن ما حصل أسوأ بكثير من مجرد جنحة. كان إهمالاً شخصياً، وربما حتى إهمالاً شخصياً إجرامياً على المستوى الجنائي من جانب “ي” وبعض كبار المسؤولين الآخرين في الوحدة التي عينها.
فشل وحدة التجسس 8200
ولفت كاسبيت إلى أن “الوحدة 8200، وحدة التجسس المركزية والإشارة والإنترنت التابعة لقسم الاستخبارات العسكرية التي صنعت لنفسها اسماً عالمياً مستحقاً باعتبارها المزود الرئيسي لخدمات الاستخبارات الأكثر تنوعاً وإثارة وعالية الجودة في العالم، أصبحت أسطورة لا ضابط استخبارات في العالم لا يحترمها”.
ولكن السابع من تشرين الأول أظهر، بحسب كاسبيت أنه لا يمكنك الفوز دائماً. حتى في 8200، هناك أشخاص يمكن أن يقعوا في فخ الرضا عن النفس والغطرسة. ويقول: “اكتشفنا أنه ممنوع التقليل من شأن الخصم وممنوع النوم لحظة، يجب ألا ننسى الغرض الأصلي من الذكاء. على المرء ألا يغرق في المصادر، مهما كانت ممتازة ومذهلة، ويهمل الأساسيات”.
وأوضح أن “ي كان يعلم أن الكارثة قد حدثت بالفعل، ولكن لا يوجد ما يمنع حدوث كوارث أخرى أكبر في المستقبل، فالجبهة الشمالية تستيقظ، وحماس لا تزال على قيد الحياة وتنشط، ولا بد من تقديم معلومات استخبارية عن الأسرى والمحتجزين، وعن حزب الله، وعن الحوثيين، ولا ينبغي لنا أن ننسى إيران التي تواصل السباق نحو القنبلة النووية”.
وتابع كاسبيت أنه “تم تشكيل فريق تحقيق للوحدة 8200 سراً، وتمت الموافقة عليه من وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، على الرغم من أن رئيس هيئة الأركان نفسه انسحب من تشكيل فرق التحقيق. أنهى فريق التحقيق تحقيقاته قبل نحو أسبوعين، ويغطي تقريره ما بين 600 و800 صفحة، والمصادر المطلعة على التقرير تزعم أنه لا يتردد في تحديد أماكن الإخفاقات وأوجه القصور، بعضها خطير للغاية، وتم اكتشافها في كل ما يتعلق بعملية المعالجة الاستخباراتية واتخاذ القرار وأساليب العمل وغيرها”.
ونقل كاسبيت عن ضابط مقرب من الوحدة: “على مدى أربعة أشهر، قلبنا كل حجر ولم نستثن أحداً من القادة، من الواضح أن الكارثة التي حلت بنا تحتاج إلى دراسة متعمقة، وعلينا فعل كل ما هو ضروري لتصحيح أوجه القصور، من أجل سرعة التعلم واستخلاص الدروس للشمال ولكل الساحات والوحدة”.
وقال هذا الضابط: “صباح يوم السبت، استيقظت مثل كل شعب إسرائيل… المشاهد صدمتني… سيارة تويوتا في سديروت، هروب جماعي نحو المستوطنات المحيطة، لا أستطيع أن أصدق ما رأيته، لم يحدث شيء مثل هذا من قبل، كنت قائداً للوحدة 8200، ورجل استخبارات وعمليات خاصة طوال حياتي، أعلم أنه من المفترض أن نحذر من أحداث أصغر بكثير من هذا الذي حصل بالفعل… لكن هنا لديك 30 نقطة اختراق على الشريط الحدودي، 3500 عنصر من قوات النخبة”.
المسؤول في قاعدة ياركون عن مراقبة “حماس”، والذي حذر خصوصاً من هجوم ضخم لقوات النخبة، لم يكن يعرف شيئاً عن خطة “حماس” الكبرى، ولا عن”خطة أسوار أريحا”. أخبر “ي” أسلافه أن “حماس أحدثت مفاجأة كبيرة، وهاجمونا كأنهم جيش منظم لا كفدائيين”.
وبينما تقوم بعض الأجهزة الأمنية والوحدات الكبرى في إسرائيل بالتحقيقات الداخلية، بدأت تتشكل في مجتمع الاستخبارات صورة حول الأسباب التي دفعت “حماس” إلى تنفيذ الهجوم، لكن سؤالاً يبرز بين الحين والآخر: لماذا لم يتم القضاء على زعيم الحركة في قطاع غزة من قبل؟
ضعف داخلي أم إهمال؟
وكتب المحلل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية ايال نداف: “يبدو أن حماس قد أخطأت الهدف. فقد أصبح إجلاء غالبية السكان من وسط غزة وشماله بسبب القتال، ذخراً استراتيجياً أساسياً لإسرائيل.
ولدى الاستخبارات الإسرائيلية صورة واضحة إلى حد ما للأسباب التي دفعت حركة حماس والسنوار إلى تنفيذ هجوم 7 تشرين الأول. وهي ليست مبنية على تقديرات أو تقييمات أو مناقشات فكرية، بل على معلومات استخبارية تم التقاطها وفك شيفرتها خلال الحرب على غزة.
وعلى الرغم من الخلافات بين شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” وجهاز الأمن العام “الشاباك” في بعض الأحيان، وعلى وجه التحديد في محاولة فهم دوافع رئيس حركة “حماس” في قطاع غزة يحيى السنوار، فإن نهجهما متشابه تماماً، فالاتفاق لا ينبع من توحيد الفكر، بل من معلومات وأدلة قوية ووثائق وتسجيلات ومواد تحقيقية.
كانت حجة السنوار الداخلية للهجوم خلال المناقشات التي جرت في الأشهر الأخيرة، التركيز على محاولة إشعال النار في السلطة الفلسطينية. ومع مرور الوقت، أصبح واضحاً أن الهجمات في الضفة الغربية، أو حتى محاولة القيام بعملية اختطاف لن تكون كافية، فتوصل السنوار ورفاقه إلى استنتاج مفاده أن الوضع أصبح خطيراً خاصة على القضية الفلسطينية، وأقنعوا أنفسهم بأن الوضع الراهن في الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى في خطر بسبب اليمين المتطرف المهيمن على الحكومة الإسرائيلية. إضافة إلى أن أوضاع الأسرى الأمنيين في تدهور مستمر، ولا فرصة لإطلاق سراحهم إلا من خلال عملية أسر ضخمة. وفي ظل التطبيع الوشيك مع السعودية، وهو حدث رمزي وإقليمي ضخم، اعتقدوا أن القضية الفلسطينية ستختفي كلياً. وبدأت وسائل الإعلام تتحدث عن نية إسرائيل العودة إلى سياسة الاغتيالات في قطاع غزة، وكان من المفترض أن يجتمع مجلس الوزراء في نهاية عيد العرش اليهودي”.
وبحسب ايال، كان هناك داخل حماس في غزة خوف من القيام بعمل مفاجئ من جانب إسرائيل، عمل يبدأ بموجة اغتيال لكبار المسؤولين. إضافة إلى ذلك كان السنوار مقتنعاً – مثل كل قادة “محور المقاومة” – بأن إسرائيل ضعيفة وتنهار من الداخل. والشعور بأن خطة الإصلاح القضائي وردود الفعل عليها ترمز إلى تصدعات النظام من الداخل، وتردد أنه في كل فروع إيران في المنطقة: يحيى السنوار (حماس)، وحسن نصر الله (حزب الله)، وزياد نخالة (الجهاد الإسلامي)، وبطبيعة الحال خامنئي نفسه، كلهم كانوا مبتهجين بالوضع المزري الذي تعيشه إسرائيل والأزمة السياسية الأخطر في تاريخها. ومن المحادثات التي أجرتها “حماس” مع “حزب الله”، كان السنوار مقتنعاً بأنه إذا بدأ حرباً، فسيكون ذلك بمثابة “طوفان الأقصى”، وسينضم إليه الجميع، وأعرب عن اعتقاده بأن ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمستوى السياسي منخفضة للغاية، بحيث لن يتمكن الجيش الإسرائيلي من الرد بحرب شاملة في قطاع غزة.
وأشار إلى أن “اعتقاد أعدائنا بأن النظام الصهيوني أضعف من أي وقت مضى، تم التقاطه من قبل مجتمع الاستخبارات، وهذا أدى إلى تحذيرات خطيرة أرسلتها شعبة الاستخبارات في الجيش والموساد والشاباك إلى المستوى السياسي. تحذيرات من أن أعداءنا سيستولون على إسرائيل في لحظة ضعف تاريخي، هي أيضاً التي دفعت وزير الدفاع غالانت إلى إلقاء خطابه الشهير في آذار (مارس) الماضي، والذي أُقيل بعده.
ويضيف أيال: “ساد خلاف أساسي في الجهاز الأمني: هل يجب مغادرة غزة أو قص العشب في بعض الأحيان، أو اتباع نهج هجومي، وكما قال أعضاء الشاباك في المناقشات الداخلية مع الوزراء – “عدم الانتظار حتى يصل الخطر”.
كان هذا بمثابة نهج منظم حتى عام 2023. وقد أوصى آخر رؤساء الشاباك من يورام كوهين وصولاً إلى نداف أرغمان إلى رونين بار، مراراً وتكراراً بالقضاء على قيادة حماس (كان أبرزهم بار) من قسم العمليات الذي أعد الخطة لذلك في عام 2011، حتى قبل أن يتم إطلاق سراح السنوار من السجن”.
وخلص أيال إلى أنه “في كل الأوقات، باستثناء فترة عام 2022، رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ذلك. المرة الأخيرة التي تمت فيها مناقشة الموضوع بجدية كانت خلال نقاش سري، إبان ولاية حكومة التغيير، بدأ الجيش الإسرائيلي بالتحضير للعملية التي أطلق عليها داخلياً اليوم الأخير لحراسة الأسوار. وكان نفتالي بينيت وراء المبادرة، وكالعادة حث الشاباك على الاغتيال، لكن كانت لدى الجيش تحفظات عميقة بشأن توقيتها. إن ضرب قيادة حماس في الأيام العادية كهجوم مباغت هو مخرج للحرب، بما له من عواقب إقليمية ودولية. كما أن معظم صناع القرار في إسرائيل اعتقدوا أن حماس قد تم ردعها، بخاصة بعد أداء الجيش الإسرائيلي خلال عملية حارس الأسوار “.
قبل أشهر عديدة، قال مسؤول كبير لإحدى وسائل الإعلام إنه خلال عام 2023 “ستسفك أنهار من الدماء”. سخر المستوى السياسي من التحذيرات وأدار ظهره، وحذر ضباط الاستخبارات من أن الهجوم كان قريباً، لكنهم لم يعرفوا من أين سيأتي، ولم يعتقدوا بالتأكيد أن ذلك سيحدث من قطاع غزة..”.