بعد أسبوعين من مجزرة مدرسة المدفعية بحلب، والتي وقعت يوم 16حزيران/يونيو 1979، أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي ) رسالة داخلية (عمّمت لاحقاً) تضمنت موقف الحزب. أصر غالبية أعضاء اللجنة المركزية، بعد أن قالوا بأن “ما حصل مدان وطنياً وإنسانياً”، على تضمين الرسالة القول بأن “من قام بالمجزرة هو ضابط بعثي”، رغم أن ” تنظيم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” كان قد أعلن في بيان علني تبني مسؤولية العملية، وبالتالي فإن من قادها ورتبها، وهو النقيب إبراهيم اليوسف ، كان مؤكداً بأنه من أعضاء “تنظيم الطليعة ” . لم يكن هذا خافياً على أعضاء اللجنة المركزية، ولكن كان يراد ، ولدوافع وغايات سياسية، عدم اصدار إدانة لعنف الإسلاميين.

في هذا الشهر وبعد أربع وأربعين عاماً تكرر ماجرى في تلك الرسالة عند الكثيرين من المعارضين، وخاصة عند الإسلاميين، ومن تبعهم من (اتجاه الليبرالية الجديدة)، تجاه المجزرة التي جرت في الكلية العسكرية بحمص، عندما، وعبر صفحاتهم في الفيسبوك أو في مقالاتٍ لبعضهم أو في بيانات لبعض التنظيمات المعارضة بالخارج ، جرت محاولة “تحميل السلطة السورية مسؤولية المجزرة “، في وضع شبيه بما حاولته تلك الرسالة عام 1979، حيث يريدون إبعاد المسؤولية عن مسلحين إسلاميين معارضين تجاه فعل “مدان وطنياً وإنسانياً” .

يعطي ماسبق صورة عن حالة سياسيين معارضين يريدون ممارسة الباطنية السياسية، حيث القول غير العقل  –  المعرفة وغير القلب، وليس هذا وحسب، بل يدل على مفارقة  أن هؤلاء ليس لهم نظرة واحدة إلى دماء السوريين بل لهم نظرة انتقائية لها، فهم يعرفون بأن من قام بالمجزرة ليس السلطة، ولا أحد يطلق النار على نفسه وناسه، بل إسلاميون مسلّحون  يقيمون تحت الرعاية التركية في الشمال الغربي، وهم من خلال “تحميل السلطة المسؤولية” يريدون عدم إدانة الفاعل وهو ما يوحي بأنهم حتى عندما يدينون الفعل فإن هذا ليس موقفهم الحقيقي ما داموا  يتلمّسون ويعرفون الفاعل للفعل ولا يدينوه هو وفعله معاً.

ولكن هذه المفارقة التي تعكس عدم وجود نظرة واحدة إلى دماء السوريين لايمكن حصرها أو اعتبارها خاصة بردود الفعل عند معارضين إسلاميين ومن تبعهم على مجزرة الكلية الحربية بحمص، بل هي أبعد من ذلك بكثير، فهي  تشمل الكثير من السوريين، وربما الغالبية، حيث الموالون للسلطة لا يقولون كلمة واحدة عن مدنيين قتلوا بسبب قصف الطائرات الروسية لمناطق في محافظة إدلب، والإسلاميون، الموالون لأردوغان، يصمتون عن قصف الأتراك بالمسيّرات والطائرات والمدفعية لمناطق عديدة في الشمال والشمال الشرقي من سوريا تضرب بها بنى تحتية مدنية ويقتل بها مدنيون، وعلى الأرجح أن من أدان مجزرة الكلية الحربية بحمص من المعارضين السوريين، مثل هيئة التنسيق الوطنية، ومجلس سوريا الديمقراطية “مسد” وحراك السويداء، ليسوا الغالبية في المعارضة السورية، كما أن هذه الأطراف الثلاثة المعارضة عندما تنظر بعين واحدة إلى الدماء السورية فإنها في الواقع تمثل أقلية بين السوريين.

هذه المفارقة في عدم وجود نظرة واحدة إلى دماء السوريين تعكس تفارقاً في قلوب وعقول السوريين وانقساماً عميقاً.

أيضاً، هناك تفارقات كثيرة بين السوريين، منها عدم وجود نظرة واحدة بينهم تجاه وجود القوات غير السورية على الأرض السورية، سواء كانت قوات نظامية لدول أو كانت ميليشيات أتت عبر الحدود؛ فالموالي للسلطة يعادي الوجود العسكري الأميركي والتركي وينظر للقوات الروسية والإيرانية ولقوات حزب الله والميلشيات الشيعية العراقية أنها قوات حليفة، والمعارضون ينظرون لها بنظرة معاكسة، كما أن الإسلاميون ينظرون لسيطرة القوات التركية على مناطق في الشمال والشمال الغربي من خلال نظرة المتعاون الراضي، فيما نظرتهم معادية للروس والإيرانيين مع سكوت عندهم عن الوجود العسكري الأميركي، بينما نجد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”ومجلس سوريا الديمقراطية “مسد” في حالة تحالف”ما ” مع القوات الأميركية في سوريا . الطرف السوري الوحيد الذي يرفض وجود كل القوات العسكرية غير السورية، سواء كانت نظامية أوغير نظامية ، هو هيئة التنسيق الوطنية .

هناك تفارق آخر خطير الدلالات والمعاني: حصل تهجير لمئات الآلاف من الكرد السوريين من مدينة عفرين ومنطقتها ومن مدينة رأس العين- سري كانيه  بعد السيطرة عليهما في فترة 2018-2019 من قبل  القوات العسكرية التركية وقوات من التنظيمات المسلحة المعارضة السورية الموالية لأردوغان، وجرى بعد ذلك توطين ممنهج هناك، تحت إشراف وتخطيط الأتراك، لعرب سوريين نزحوا لمحافظة إدلب أو كانوا لاجئين سوريين في تركيا. هذا تهجير جرى على أساس قومي من قبل أجنبي لسوريين تم اقتلاعهم من أراضيهم وبيوتهم، وتوطين لسوريين آخرين من قومية أخرى تحت إشراف الأجنبي المحتل في أرض وبيت السوري المهجر هنا، المفارقة – التفارق أن قوى معارضة سورية تتبع لأردوغان تتواطىء وتشارك في هذه العملية وسط صمت مطبق من قبل السوريين الآخرين في مواقعهم المختلفة في المعارضة والموالاة، والخطورة  البعيدة المدى في العملية التركية المذكورة أن أردوغان لا يخفي أنه يريد إقامة “منطقة آمنة” وفق تعبيره على طول الحدود ، والأرجح أن هذا  سيكون  تكراراً لسيناريو سلخ لواء اسكندرون في الثلاثينيات عندما بتواطؤ فرنسي – تركي أعطي للواء وضعية كيانية سياسية خاصة ثم جرى ضمّه لتركية بعد سنتين في عام 1939.

يمكن رصد تفارق جديد عندما أظهرت الحرب الراهنة  في غزة أن هناك سوريين معارضين، ولو أنهم قلة، أصبحوا ينظرون للقضية الفلسطينية ليس من منظار أنها قضية وطنية سورية جامعة للسوريين بل من منظار عدائهم لإيران وحليفتها حركة حماس، وهم ينظرون، وهذا واضح من صفحاتهم على الفيسبوك، من هذه النظارة إلى الحرب الجارية الآن، وقد كان هناك إرهاص أو جنين لهذا الاتجاه من خلال موقف نظر منه ليبراليون سوريون جدد، كانوا سابقاً  في الموقع الشيوعي- الماركسي، إلى حرب تموز 2006 من خلال نظارة معاداتهم لحزب الله الممزوجة بمراهناتهم على المشروع الأميركي الذي أتى للمنطقة عام 2003 عبر البوابة العراقية  “من أجل إعادة صياغة الشرق الأوسط” وفق تعبير وزير الخارجية الأميركية كولن باول.