غداة الهجوم غير المسبوق الذي شنته “حماس” وأدى إلى مقتل 1400 إسرائيلي، أدلى المسؤولون الإسرائيليون بعدة تصريحات حول نوع الرد والأهداف التي تخطط إسرائيل للوصول إليها في غزة. تشير كل الأحداث والتصريحات إلى حقيقة مؤكدة وهي أن الحملة الجوية الإسرائيلية واسعة النطاق ضد غزة، والتي تسببت حتى الآن في وقوع إصابات وتشريدٍ وتدميرٍ على نطاق واسع بين الفلسطينيين، لا تزال في بدايتها. ولكن بينما كان المسؤولون الإسرائيليون يدلون بتصريحاتهم النارية ضد هجمات “حماس”، كانت بعض الأصوات تحذر في المقابل من أن الدخول إلى غزة دون خطة جادة قد يكون كارثيا. وحددت هذه الأصوات أوجه شبه بين رد الولايات المتحدة على أحداث 11 سبتمبر/أيلول، والرد الإسرائيلي على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، بينما حذر كثير من المعلقين والمسؤولين (على رأسهم الرئيس بايدن)، من إمكانية ارتكاب الأخطاء بسهولة. ومن المرجح أن يكون المدنيون هم من سيدفع ثمن تلك الأخطاء.
يتطلب هذا الوضع دراسة التصريحات الإسرائيلية وانعكاساتها الفعلية في الواقع. وكثيرا ما تتم مناقشة الصراع الإسرائيلي على أساس سردي بحت، حيث يوجه كل من الجانبين أصابع الاتهام للآخر. غير أن المهم لكلا الطرفين الدخول في محادثة حول ما يخبئه المستقبل، حتى خلال هذه الأوقات المظلمة.
وثمة أمر لا بد من فهمه جيدا، وهو أن الضغط الشعبي الهائل في إسرائيل قد بلغ منتهاه، حيث تبث القنوات التلفزيونية بشكل مستمر روايات مباشرة عن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا يزال الإسرائيليون يتداولون صور ذلك اليوم بكثافة. أطفال ينعون والديهم على شاشات التلفزيون الوطني، وقد فقد بعضهم أسرهم بأكملها بشكل مأساوي، ولا يزال خبراء الطب الشرعي يحللون رفات الضحايا الذين احترقوا. وفوق ذلك، لا يزال ثمة أشخاص في عداد المفقودين. لم تتم معالجة الصدمة بشكل كامل من قبل معظم الناس. ويتضافر هذا الوضع مع تنامي انعدام الثقة على نطاق واسع بين معظم الإسرائيليين وحكومتهم في الوقت الحالي.
والحال أن رئيس الوزراء نتنياهو لم يكن، حتى قبل أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، يتمتع بشعبية واسعة النطاق. ومع ذلك، تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى انخفاض معدلات تأييده. وكشف استطلاع أجرته وكالة “معاريف” الإخبارية الإسرائيلية أن حزب نتنياهو السياسي سيشهد انخفاضا غير مسبوق في التأييد الشعبي، وسيواجه ائتلافه هزيمة مدوية إذا أجريت الانتخابات اليوم.
يتطلب هذا الوضع دراسة التصريحات الإسرائيلية وانعكاساتها الفعلية في الواقع. وكثيرا ما تتم مناقشة الصراع الإسرائيلي على أساس سردي بحت، حيث يوجه كل من الجانبين أصابع الاتهام للآخر. غير أن المهم لكلا الطرفين الدخول في محادثة حول ما يخبئه المستقبل، حتى خلال هذه الأوقات المظلمة.
في المقابل، انضم بيني غانتس، المعارض منذ فترة طويلة لنتنياهو، إلى الحكومة. ويبدو أنه استفاد أكثر من الأزمة من حيث الدعم الشعبي، ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الحكومة الحالية ليست في حقيقة الأمر حكومة موحدة حقا، وأن ثمة شخصيات عديدة رفضت المشاركة في حكومة تضم أفرادا ذوي آراء متطرفة، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. وبكلمات أخرى تقود الحكومة الحالية الأزمة، ولديها الكثير والكثير مما ينبغي عليها أن تثبته وهي لا تتمتع إلا بمستوى منخفض للغاية من ثقة الجمهور. ومع ذلك، فإن هذه الحكومة ذاتها هي التي قد يُطلب منها اتخاذ قرارات سيكون لها عواقب بعيدة المدى ليس على مستقبل إسرائيل وفلسطين فحسب، بل على المنطقة ككل أيضا.
منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، أدلى المسؤولون الإسرائيليون بعدة تصريحات حول الهدف المحتمل لحملتهم التي قد تتوج بغزو بري لغزة. وشهدت الأيام الأولى قول وزير الدفاع غالانت أن إسرائيل “ستمحو هذا الشيء المسمى حماس”، مقارنا “حماس” بتنظيم داعش، ووعد مرة أخرى بأنها “سوف تُمحى من على وجه الأرض”. ودون النظر في المعايير المحددة لمثل هذه العملية “لإزالة حماس” من غزة، أو عدد القتلى الهائل الذي سيترتب على مثل هذه الخطة، سأشير إلى أن كل الحملات السابقة التي شُنت في كل مكان آخر في العالم، سواء كانت ضد تنظيم داعش أو الحملة ضد حركة طالبان في أفغانستان، أثبتت شيئا واحدا وهو أن “النصر” ليس بالأمر اليسير.
صعوبة الحسم العسكري مع “حماس”
من الممكن إضعاف الجماعات المسلحة من خلال الحملات الأمنية، لكن تحقيق هزيمة نهائية وكاملة، كما يريد غالانت، نادرا ما يتحقق. ومن المهم أيضا أن ندرك أن أي حملة أمنية كبيرة يجب أن تتضمن عنصرا سياسيا ومكونا لبناء الدولة، حيث يتماشى ذلك مع الدروس المستفادة من الجهود السابقة لمكافحة الجماعات المتطرفة. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن عمليات مكافحة التمرد هذه تمتد عادة على مدى عدة سنوات. ولم تشن إسرائيل مثل هذه الحملة من قبل، والشروع في مثل هذه الحملة دون استعدادات شاملة، وخاصة في أعقاب هجوم مفاجئ، قد يتبين بسهولة أنه أمر غير حكيم، على أقل تقدير.
المجموعة الثانية من الأهداف التي ذكرها المسؤولون الإسرائيليون تتعلق بفكرة “الإطاحة” بقيادة “حماس” في غزة. لقد عملت حماس كنظام استبدادي، حيث قمعت أي شكل من أشكال المعارضة داخل غزة وحولت المساعدات الدولية لصالحها. كما أن أفعالها جعلت المنطقة أقرب إلى صراع محتمل أكبر من أي وقت مضى.
ورغم أن فكرة “إزالة حماس” قد تبدو جذابة في نظر الإسرائيليين، إلا أن الجوانب العملية لتحقيق هذه الغاية ليست بسيطة على الإطلاق. وهذا يتطلب بديلا قابلا للتطبيق وخطة واقعية لبناء حكومة جديدة، خاصة بالنظر إلى الأضرار الجسيمة التي قد يسببها الصراع في غزة (وهو ما يحدث بالفعل). والسؤال الآن هو ما إذا كانت الحكومة التي يقودها نتنياهو، والتي سعت تاريخيا إلى تعزيز قوة “حماس” وإضعاف السلطة الفلسطينية من خلال نهج “فرق تسد”، قد باتت اليوم– وعلى حين غرة– على استعداد لمساعدة محمود عباس في استعادة السيطرة على غزة.
لن أراهن على ذلك، نظرا لسجل نتنياهو، ولكن حتى لو حدث فإن السلطة الفلسطينية قد تكون ميتة بحلول الوقت الذي “تحتل فيه” إسرائيل غزة. ولنتذكر أنه حتى قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كانت السلطة الفلسطينية تعاني من أزمة طويلة وعميقة. أزمة قائمة، بعد أن فقدت الشرعية في نظر الفلسطينيين، بل وفقدت فعليا السيطرة على جزء من الضفة الغربية.
من الممكن إضعاف الجماعات المسلحة من خلال الحملات الأمنية، لكن تحقيق هزيمة نهائية وكاملة، كما يريد غالانت، نادرا ما يتحقق. ومن المهم أيضا أن ندرك أن أي حملة أمنية كبيرة يجب أن تتضمن عنصرا سياسيا ومكونا لبناء الدولة، حيث يتماشى ذلك مع الدروس المستفادة من الجهود السابقة لمكافحة الجماعات المتطرفة.
لا يحظى عباس بشعبية كبيرة، وهو عاجز تماما عن فعل أي شيء من أجل غزة. وهو بالكاد يستطيع الخروج من المقاطعة، مقر حكومته في رام الله. لكن مصيره مرتبط في الواقع بمصير غزة. في أعقاب الانفجار الذي وقع في المستشفى الأهلي في غزة، اندلعت احتجاجات عفوية في مدن فلسطينية متعددة، بما في ذلك رام الله. ولم تكن الهتافات موجهة إلى إسرائيل فحسب، بل إلى عباس أيضا، وقد شوهدت أعلام حماس وسُمعت شعاراتها، وهذه ليست ظاهرة جديدة؛ فقد رأينا الشيء ذاته خلال حرب غزة عام 2021. وإذا قيض لنا أن نشهد حملة مدتها شهر أو حتى سنة/ سنوات في غزة، فإن هذه الهتافات ستستمر وتنمو. وسيتحول ما تعمل إسرائيل من أجل “القضاء عليه” في غزة إلى خطر موجود في الضفة الغربية. وقد تتمزق نقاط الضعف الإقليمية، وستشعر الحكومات العربية المعتدلة، بما في ذلك في الأردن ومصر، بالهزة الارتدادية الناجمة عن محاولة إسرائيل الاستيلاء على غزة.
وإذا نجت السلطة الفلسطينية، فلن تكون أكثر من صَدفة فارغة، عاجزة عن حكم غزة والضفة الغربية. وفي هذا “السيناريو الأفضل”، فإن إسرائيل ستواجه في غزة (وربما في الضفة الغربية) ما تواجهه الآن في لبنان مع “حزب الله”: جماعة مسلحة تختبئ خلف حكومة عاجزة عن الوقوف في وجهها. وستصبح “حماس” جماعة متمردة، اعتقد البعض، في البداية، أنها قد تغيرت، وبدا أنها تقبل وجود دولة إسرائيلية على حدود عام 1967. ومع ذلك، فإن هجمات عام 2023 تثبت أن هذا التغير الملحوظ كان فكرة خاطئة، وأن الجماعة في غزة أصبحت في الواقع أكثر تطرفا.
وفوق ذلك، يبدو أن “حماس” حققت أحد أهدافها: القدرة على شن هجمات على إسرائيل من غزة دون الاضطرار إلى تحمل مسؤوليات حكم سكان غزة الذين يزيد عددهم على مليوني نسمة. وتخضع غزة لحصار إسرائيلي منذ سيطرة “حماس” عليها في عام 2007. وفي السنوات الأخيرة، أبدت “حماس” استعدادها للسماح للسلطة الفلسطينية باستعادة السيطرة على غزة، حيث تهدف إلى الحفاظ على دورها كواجهة “للمقاومة” ضد الاحتلال الإسرائيلي دون الحاجة إلى الإشراف على الشؤون المدنية. وتركز المجموعة في المقام الأول على هويتها كمنظمة مسلحة، ومن غير المرجح أن تعطي الأولوية لحكم ورفاهية سكان غزة. وإذا نجت حماس من الهجوم الإسرائيلي، فمن المرجح أن تعمل على إحباط أي جهود لتحقيق الاستقرار في القطاع الفلسطيني.
ويجري الآن استكشاف بدائل أخرى لاستعادة حكم السلطة الفلسطينية، مثل إدارة مصر قطاع غزة، أو تشكيل حكومة برئاسة محمد دحلان، الخصم اللدود لعباس منذ فترة طويلة. ولكن أيا من الخيارين لا يبدو واقعيا حقا؛ فمصر ليست مهتمة بأي حال من الأحوال باستعادة المسؤولية عن غزة، في وقت تواجه تحديات داخلية هائلة. أما دحلان، الذي يعيش في الإمارات، فلم يتواجد في غزة منذ سنوات، بل إنه هو الذي خسرها أمام “حماس” عام 2007. وهو في أحسن الأحوال شخصية غامضة ويصفه منتقدوه بأنه “انتهازي”، وعلاقاته مع “حماس” غير واضحة. وإذا أعيد إلى السلطة في غزة، فإما أن يصبح رئيسا صوريا عاجزا، وإما أن يستمر في عقد الصفقات من أجل بقائه؛ بما في ذلك مع حماس إذا لزم الأمر، ناهيك عن أن أي شخص تعينه إسرائيل سيبدأ حياته المهنية كشخصية غير شرعية في نظر الفلسطينيين.
في السنوات الأخيرة، أبدت “حماس” استعدادها للسماح للسلطة الفلسطينية باستعادة السيطرة على غزة، حيث تهدف إلى الحفاظ على دورها كواجهة “للمقاومة” ضد الاحتلال الإسرائيلي.
نكبة أخرى
البديل الذي يشكل مصدر قلق للفلسطينيين هو احتمال حدوث “نكبة” أخرى، أي تهجير جماعي للفلسطينيين من غزة. وفي حين أن بعض الأفراد في إسرائيل، بما في ذلك مؤسسة فكرية يقودها مئير بن شبات، مستشار الأمن القومي السابق، قد ذكروا هذا الاحتمال، فمن غير المرجح أن يكون جزءا من خطط إسرائيل الفعلية.
إن مثل هذه الخطوة من جانب إسرائيل من شأنها أن تخلف تداعيات عميقة في مختلف أنحاء العالم العربي، وخاصة في مصر، ومن شأنها أن تحول الحكومة التي تمكنت إسرائيل من التعاون معها إلى خصم لدود. ولن يؤدي هذا إلى التراجع عن سنوات من التقدم فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى تراجع العلاقات بين البلدين عقودا إلى الوراء، على الرغم من أنني أفهم لماذا قد يخشى الفلسطينيون في غزة مثل هذا السيناريو ولماذا يعتقدون أن إسرائيل قادرة على النظر فيه، فمن المرجح أن يُنظر إلى أي شخص يدافع عنه داخل إسرائيل على أنه فرد متهور، ليس فقط من قبل الشخصيات الإسرائيلية الأخرى، ولكن أيضا من قبل حلفاء إسرائيل، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وبينما أظهرت الحكومة التي يقودها “بيبي” (نتنياهو) أن الحماقة متأصلة فيها بشكل طبيعي، إلا أنها الآن تحت وصاية “بالغين آخرين في الغرفة” لن يسمحوا بمثل هذه التصرفات.
وأخيرا، زعم المسؤولون الإسرائيليون أيضا أنهم سوف “يدمرون قدرات حماس العسكرية”. يبدو هذا بالتأكيد وكأنه خطة أكثر واقعية، في ظاهرها. ولكن حتى هذا الهدف سوف يكون صعبا. ولإعطاء فكرة عن نطاق الحملة، فقد استمرت حملة استعادة الرقة من داعش خمسة أشهر. واستغرقت حملة استعادة الموصل من داعش تسعة أشهر.
قطاع غزة منطقة أكبر بكثير وأكثر كثافة. وتشير التقديرات إلى أن لدى حماس أكثر من 30 ألف رجل، أي أكثر بعدة مرات من داعش– على الرغم من أن إسرائيل حشدت أيضا قوة أوسع وهي قوة أكثر صلابة بكثير. وقامت “حماس” منذ سنوات باستخدام الخرسانة بشكل كبير لبناء مدينة تحت الأرض، معظمها تحت مدينة غزة، ولكن أيضا في أجزاء من وسط قطاع غزة وشرق خان يونس. وسيتعين على الطائرات الإسرائيلية استخدام القنابل الخارقة للتحصينات لتدمير بعض الأنفاق، معرضة لخطر القتل أولئك الرهائن الذين من المحتمل أن يكونوا مختبئين داخلها. وبينما يواجه قطاع غزة أزمة إنسانية حادة، فمن المرجح أن “حماس” قامت بتخزين الوقود والغذاء والمياه لمدة أشهر. وكانت إسرائيل تدرب وحدات محددة، بما في ذلك سلاح المهندسين والقوات الخاصة، على القتال في الأنفاق، ولكن هذه ستكون حربا وحشية، من شأنها أن تخلف عشرات القتلى من المدنيين، وتدمر القسم الأعظم من غزة.
أتوقع الآن أن يكون القادة الإسرائيليون وشركاؤهم قد فكروا في هذه السيناريوهات، وتناقشوا فيها كما آمل. لا بد أن الأشخاص الأكثر هدوءا في الغرفة هم الذين أجروا تلك التقييمات، ولن يكون من الصعب على الإطلاق التنبؤ بها. ونأمل أن يفهم بعضهم أنه في حين يتعين على إسرائيل أن ترد على همجية “حماس” في هجماتها الأخيرة، فإنها قد ترتكب بالسهولة نفسها أخطاء ذات أبعاد تاريخية. والأخطاء التي لن تخدم سوى المتطرفين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك إيران– الدولة التي كانت دائما سعيدة بالبناء على بؤس الفلسطينيين، وتجنيد المزيد من الجنود لتغذية طموحاتها الإقليمية.