في الحروب، يُقتل الأطفال بوحشية ممنهجة أولاً لإحداث خسارات في الحياة، ثانية لإحداث تروما لإخضاع الباقين والباقيات على قيد الحياة وترويعهم\ن.

تكاد لا تمضي دقيقة واحدة إلا وتنتشر صور وقصص مرعبة عن أطفال وطفلات عالقون\ات تحت الحطام في غزة، طفل يرتجف من الخوف قبل أن ينفجر بالبكاء بعدما غمره أحد المسعفين، طفل يستعينون به للتعرف على جثث عائلته بعدما أبيدت، لكنه وحده “نجا”، طفلة تئن من ألمها على سرير المستشفى، خديج يلد من رحم أمه الميتة ويقبع وحيداً في الحاضنة الزجاجية، إذ لم يتبقَّ له أحد ليسأل عنه لأن عائلته بكاملها ماتت تحت الردم.

صور تختزل حكايات، كأم تبحث عن يوسف، ابن السبع سنوات “حلو وشعرو كرلي”، لكن يوسف قتله صاروخ. هناك أيضاً عمر وسوسو، نراهما في الصورة  ملتصقان جنباً إلى جنب  على كرسي في المستشفى، وصلا وحيدين وعيونهما مفتوحة على رعب علنيّ.

إعلام مفتوح على صور الأشلاء ومشاهد الدمار وانتهاكات مخيفة لحقوق الأطفال والطفلات. وعلى رغم فظاعة العنف الممنهج، أقف محتارة ما بين ضرورة عرض وحشية جيش نظامي يقتل من دون رفة جفن وما بين حماية الأطفال في الإعلام ومِن الإعلام.

ما هو هذا الخيط الرفيع الأخلاقي الفاصل ما بين إظهار الحقائق، في ظل حملة تضليل إعلامي غير مسبوق يحلّل قتل الأطفال والطفلات، وما بين مقتضيات الحماية؟

أكثر من 1500 طفل وطفلة من أصل 4200 قتلهم الجيش الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وأفادت وزراة الصحة الفلسطينية بإصابة أكثر من 13 ألف شخص معظمهم\ن مصابين\ات بجروح بليغة وربما إعاقات طويلة الأمد. وفي المقلب الآخر، ثمة أعداد كبيرة من المفقودين والمفقودات تحت الحطام، أولئك لم يكن ممكناً الوصول إليهم\ن بفعل القصف المستمر ونقص المعدات والانشغال بعمليات الإنقاذ.

تقدّر عدد الوحدات المنزلية التي تعرضت للتدمير الشامل بـ 5 آلاف، وعدد النازحين والنازحات بأكثر من 750 ألفاً، معظمهم نساء وأطفال يعيشون في ظروف غير إنسانية في مدارس الأونروا ومحيط المستشفيات والكنائس. وتشير التقارير الى أن حوالى 100 شخص يتشاركون غرفة واحدة في ظل انقطاع التيار الكهربائي وشحّ المياه، ناهيك بصعوبة تأمين أكل ملائم، بخاصة للأطفال الرضّع.

هناك أيضاً ولادات تتم في ظروف قاهرة، ومستشفيات مهدّدة بالإخلاء، وعمليات جراحية تُجرى من دون مخدّر وظروف نزوح من دون أي حماية.

حقيقة دامغة لا يمكن تجاهلها، هي أن ما يتعرض له الأطفال والطفلات في غزة أبعد وأعمق من أي صورة ترصد الوجوه والأجساد. هي مقدمة لإبادة جماعية. ولا بد أن نشير هنا، إلى أن جرائم الحرب والإبادات الجماعية، على أشكالها وبغض النظر عن الإثنيات والأعراق والأماكن، إحدى الصفحات الأكثر ظلامية في تاريخ البشرية ووصمة عار تلاحق مرتكبيها. وعلى الرغم من توثيق الدمار وأعداد القتلى خلال هذه الأحداث، يبقى تأثيرها على الأطفال والطفلات، تحت مسمى التروما المتوارثة عبر الأجيال، عميقاً ومتعدد الأبعاد.

استهداف الأطفال والطفلات في الحرب الراهنة ليس مصادفة أو ما يعرف بالـ collateral damage، بل هو متعمد ومقصود، الانتهاكات الحاصلة متعددة الأشكال وعنيفة إلى حد يفوق أحيان قدرة الأطفال والطفلات على تخطّي الأزمات. وإن كان عدد القتلى من الأطفال والطفلات في غزة إلى الآن لا يحتمل أي تأويل أو تستّر. ولا بد هنا من سرد مروحة الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال والطفلات في تأكيد على تقاطع الحرب الدائرة ضد غزة الآن مع سمات الإبادات الجماعية.

تقدّر عدد الوحدات المنزلية التي تعرضت للتدمير الشامل بـ 5 آلاف، وعدد النازحين والنازحات بأكثر من 750 ألفاً، معظمهم نساء وأطفال يعيشون في ظروف غير إنسانية في مدارس الأونروا ومحيط المستشفيات والكنائس.

 الحرمان من الحياة والعائلة

في الحروب، يُقتل الأطفال بوحشية ممنهجة أولاً لإحداث خسارات في الحياة، ثانية لإحداث تروما لإخضاع الباقين والباقيات على قيد الحياة وترويعهم\ن.

أما الأسرة التي تُعتبر حجر الأساس لنمو الطفل وحمايته، كثيراً ما تؤدي المجازر الجماعية إلى فصل الأطفال والطفلات قسراً عن الأهل أو مقدمي\ات الرعاية. ويتسبب هذا الانفصال في صدمة عاطفية ونفسية عميقة لدى الأطفال والطفلات، ناهيك بمصير مجهول  في ظل غياب الرعاية والحب الأساسيين لتخطّي صدمة الحرب.

تجنيد وتهجير وعنف جنسي

قد تقوم أنظمة بتجنيد الأطفال والطفلات قسراً في صفوفها، وتحوّلهم\ن إلى جنود أو عمال. وكثيراً ما يتعرض هؤلاء الصغار للعنف وشتى أنواع الانتهاكات الجنسية كشكل من أشكال العبودية.

كما تؤدي جرائم الحرب والمجازر غالباً إلى نزوح جماعي لمجموعات سكانية بكاملها، بمن في ذلك الأطفال والطفلات، ما يعرضهم\ن لظروف معيشية قاسية، وعدم الحصول على الرعاية الصحية والتغذية. وتؤدي هذه الظروف إلى استدامة المعاناة كحلقة مفرغة يصعب الخروج منها.

حرمان من التعليم

كثيراً ما يُمنع الأطفال والطفلات من الالتحاق بالمدارس، الأمر الذي يعيق نموّهم الفكري ويحرمهم\ن أيضاً من الشعور بالحياة الطبيعية والأمل وإمكان السير نحو مستقبل أفضل.

أحد أكثر انتهاكات حقوق الطفل ديمومة وانتشاراً هو الصدمة النفسية التي يتعرض لها الأطفال والطفلات، وهذا ما بدأ الأطباء في غزة يحذرون منه، إذ يتحدثون عن حالات نفسية وعصبية وخوف يعيشه الأطفال الناجون، عدا عن حالات تبوّل لا إرادي. وغالباً ما تترك مشاهدة وتجربة العنف والخسارة والانفصال ندوباً عميقة قد تستمر مدى الحياة.

المخيف، أن ما يتعرض له الأطفال والطفلات في غزة اليوم يتم بمباركة عالمية وتحت شعار القضاء على الإرهاب. فكيف لنا، نحن العاملين والعاملات في مجال الحماية، أن نتعامل مع هذا القتل الممنهج؟ فجهود التدخل مقيدة في ظل تواطؤ عواصم غربية وكبرى على تجاهل المقتلة الحاصلة في غزة.

يتبقى لنا صوتنا اليوم، علينا أن نعليه وأن ننادي بإنصاف الضحايا وإيقاف القتل الممنهج ومحاكمة المجرمين وإن كانوا على هيئة دولة، وتوفير الأمن والأمان والاستجابة الملائمة.

ولكن، كيف لنا أن نوازي بين الأخلاقيات الإعلامية ومسؤوليات إعلاء الصوت من دون النزول إلى مستنقع الاستثمار في مأساة الأطفال والطفلات كأداة إدانة.

ألا تكفي الإحصاءات والأرقام والحقائق لردع القاتل ومحاسبته؟

ربما تكون المعادلة الأخلاقية صعبة، والتنازلات تفرض نفسها في ظل تضليل إعلامي ممنهج. وفي الوقت المستقطع، تبقى عيون عمر وسوسو شاخصة في وحشية القاتل التي لا قعر لها، ونحن نشهد.