فضيحة تركية بعد فضائح أوروبية… لماذا تتزايد تعديات رجال الدين على الأطفال؟  المصدر: النهار العربي سركيس قصارجيان

فضيحة جديدة انفجرت في تركيا قبل أسابيع من الانتخابات المحلّية بطلها أحد المدرّسين الدينيين داخل مدرسة ليلية تابعة لجماعة دينية مقرّبة من الحكومة وضحيّتها أطفال من نزلاء المدرسة.

ويرجع خبير تركي تزايد حالات تحرّش رجال دين مسلمين ومسيحيين بالأطفال، وخصوصاً الذكور منهم، إلى الفهم الخاطئ للخطاب الديني السائد لطبيعة العلاقة بين الجنسين شارحاً اسباب هذا الشواذ الذي بات أولوية بالنسبة الى الفاتيكان المصرّ على سياسة “عدم التسامح” بعد ازدياد عدد الفضائح الكبيرة في الكنيسة الكاثوليكية.

بدأت القصة بتقدّم عدد من أولياء أمور أطفال مقيمين في سكن ليلي خاص للبنين تعود ملكيّته وإدارته الى جماعة “سليمانجيار” (السليمانيين) الدينية في منطقة (ألانيا) في مدينة أنطاليا ببلاغ الى النيابة العامة حول تعرّض أطفالهم لاعتداءات جنسية من قبل أحد المدرّسين المقيمين في المدرسة في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2023.

وألقت السلطات التركية القبض على المدرّس “ج. ر. ي.” البالغ من العمر 20 عاماً آنذاك، بتهمة الاعتداء الجنسي على 5 طلاب ذكور دون سن 14 عاماً، قبل أن يرتفع عدد الضحايا إلى 10 أطفال نتيجة التحقيق معه وأخذ أقواله وقد تم اخلاء سبيله بانتظار جلسات المحاكمة.

لكن الضغط الشعبي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات الإعلامية للعديد من الإعلاميين والنواب والسياسيين أجبر وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية التركية على التدخّل من خلال تقديم شكوى جنائية ضد المدرّس، الذي تم اعتقاله مجدداً وتوقيفه على ذمة القضية.

وسيحاكم المدرّس المذكور بتهم “الاعتداء الجنسي عن طريق اللمس” و”التحرّش الجنسي ضد الأطفال” و”إعطاء منتجات تحتوي على صور أو كتابات أو كلمات بذيئة للأطفال أو عرض محتواها” لـ 9 طلاب و”الاعتداء الجنسي المباشر” على طالب واحد، مع عقوبة إجمالية تصل إلى 94 سنة سجن.

وورد في لائحة الاتهام التي تتضمن أدلة رقمية تم الحصول عليها من هاتفه وحاسوبه بالإضافة إلى شهادات الأطفال، أن المدرّس قام بلمس الأعضاء الحساسة للأطفال، وأجبرهم على لعب ألعاب ذات محتوى جنسي، واستخدم العنف الجسدي ضد الأطفال الرافضين، وأجبر الأطفال على مشاهدة مقاطع فيديو جنسية فاضحة.

كما ذكر طفل آخر مقيم في السكن أن الجاني اصطحبه إلى الغرفة رقم 6 في المهجع “للتنظيف” وقام بالاعتداء عليه بعد تشغيل المكنسة الكهربائية لكي “لا يسمع أحد صراخه”.

وتحرّكت الجماعة لإقناع أهالي الأطفال بالتنازل عن الدعاوى التي رفعوها، وقد نجحت محاولاتهم لناحية اصرار عائلات 5 من أصل 10 أطفال تعرّضوا للاعتداء على متابعة المسار القانوني، لتركز الجماعة بعدها على محاولة إقناع العائلات بمنع التغطية الإعلامية للحادث وعدم البوح بالتفاصيل بشكل علني.

ارتبطت الحكومات التركية المتعاقبة في عهد “العدالة والتنمية” بالجماعات والطرق الدينية بشكل وثيق، اذ اعتمدت عليها في حشد الكتل الانتخابية والدعم الشعبي مقابل فسح المجال أمامها لممارسة النشاط الديني والثقافي والتجاري والتعليمي في كامل أنحاء البلاد رغم منع القانون التركي ذلك.

وأفسحت الحرب التي شنّها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على شريكه السابق الداعية الإسلامي فتح الله غولن وجماعته، الطريق أمام الطرق والجماعات الدينية الأخرى للبروز والاستحواذ على حصة أكبر من الاهتمام والرعاية الرسمية، ومنها جماعة “السليمانيون”.

لكن الفضائح الجنسية والمالية المتكررة لمسؤولين ورجال الطرق الدينية المذكورة زادت من الضغوط الشعبية والسياسية من المعارضة على الحكومة التركية، التي اضطرت في الكثير من الأحيان إلى التراجع عن قرارات متساهلة معها، كما هو الحال في إخلاء سبيل المتّهم في القضية الجنائية الحالية وإعادة اعتقاله.

تقول الصحافية التركية دينيز غونغور، وهي من أوائل الصحافيين المتابعين لدعوى الاعتداء على الأطفال العشرة في أنطاليا، في تصريحات إلى “النهار العربي” حول العلاقة بين الحكومة والطرق الدينية: “يجب ألا ننسى أن وزير التربية  يوسف تكين أدلى بتصريح فاضح عندما قال: لدينا 10 بروتوكولات مع الجهات التي تسمونها بالجماعات ونسميها نحن منظمات غير حكومية”.

وتشرح غونغور الكاتبة في صحيفة “بير غون” التركية أنّه “مع فسح حكومة حزب العدالة والتنمية الطريق، انتشرت مساكن الجماعات في كل أنحاء البلاد، وأجبر الفقر الناجم عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة العائلات على إرسال أطفالها للعيش في هذه المساكن التي توفر أماكن إقامة رخيصة ومجانية. كما أن العائلات المحافظة تفضّل هذه المساكن التي تضم مدارس أيضاً من أجل التعليم الديني”.

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها اتّهام مدرّس أو مؤسسة تابعة لطريقة دينية بإساءة معاملة الأطفال، وقد احصى “النهار العربي” 18 فضيحة من العيار الثقيل في السنوات 15 الأخيرة في تركيا كان أبطالها قادة وزعماء أو مسؤولي طرق دينية.

وبرأي غونغور فإن “عدم خضوع هذه الجماعات ومؤسساتها لإشراف الدولة إلا في نطاق محدود جداً، وحقيقة تبعيّتها لجماعات دينية (معصومة عن الخطأ) يعتبران من أهم أسباب تزايد الإساءة للأطفال في المؤسسات التابعة لها،

واعتقد أيضاً أن بعض الانتهاكات التي تحدث في هذه المساكن الخاصة، وللأسف الشديد، لا يتم الكشف عنها أمام العلن”.

وبعد إعلان جماعة فتح الله غولن الدينية إرهابية، سجّلت حوادث الاعتداء على الأطفال نمواً متلازماً مع ازدياد عدد الطرق والجمعيات الدينية.

أما الفضيحة الأكبر في هذا السياق فقد انفجرت عام 2022 حينما كشفت زوجة مؤسس جمعية “نور حراء” التابعة لطريقة الإسماعيليين الدينية، يوسف ضياء غوموشيل، عن تعرض ابنتها للاعتداء الجنسي في سن 6 سنوات من قبل أحد الذكور البالغين من أعضاء الجماعة الدينية، وذلك قبل أن يتم تزويجها له في سن 14 عاماً، خلافاً للقوانين التركية التي تمنع الزواج قبل بلوغ الفتاة سن الـ 18.

وترى غونغور أن “خطاب الكراهية والاستقطاب الذي تتبناه حكومة حزب العدالة والتنمية خلق قطبين مختلفين في الرأي العام تجاه الطريق والجماعات الدينية، فبالنسبة الى مؤيدي حزب العدالة والتنمية لا يمكن الحديث عن موقف مضاد تجاه الطرق والجماعات الدينية التي تربطها بحزب العدالة والتنمية علاقات وثيقة، وهناك في المقابل مجموعة تدافع عن العلمانية وتعارض الشريعة الإسلامية، ولن يكون من الخطأ القول بأن هذه الفئة تضمر غضباً كبيراً ضد هذه الجماعات”.

تستعد تركيا لخوض الانتخابات المحلّية في 31 آذار (مارس) الجاري وسط منافسة حادة بين السلطة والمعارضة على البلديات الكبرى في البلاد بشكل خاص، وعلى رأسها بلدية اسطنبول التي يسعى حزب “العدالة والتنمية” لاسترجاعها بأي ثمن.

وعن تأثير هذه الحادثة التي انفجرت قبل أسابيع من الانتخابات المحلية على نتائج الانتخابات تقول غونغور: “للأسف، ليس غريباً على الشعب التركي الحوادث التي تشهدها مساكن الطرق الدينية، وقد شهدنا العديد من حوادث إساءة معاملة الأطفال في مهجع السليمانيين ووفاة الأطفال في الحرائق، إلا أن تركيا شهدت أكبر صدمة مع حادثة “مؤسسة أنصار” التي تعرض فيها 45 صبيًا للإساءة. ورغم أن هذه الحادثة أحدثت ضجة كبيرة في الرأي العام، إلا أن الانتخابات التي أعقبتها أظهرت أن غياب القضاء في البلاد وسياسات الإفلات من العقاب تعزز صمت الرأي العام في مثل هذه الحوادث”.

وتضيف: “كنت أتمنى أن يكون لهذه الحادثة تأثير على الانتخابات المحلية، لكن للأسف لا اعتقد أن هذا سيحدث”.

ليست تركيا وحدها التي تعاني من حوادث اعتداء مدرّسين وزعماء ورجال دين على الأطفال في ظاهرة باتت تهدد الكنيسة الكاثوليكية إلى حد كبير بالإضافة إلى الكنائس الانغلوساكسونية والأرثوذكسية التي نادراً ما تعلن عن مثل هذه الفضائح بخلاف الأخريات.

وقد كشف تقرير فرنسي نشر الأسبوع الماضي عن وقوع نحو 330 ألف طفل ضحية للاعتداء الجنسي على يد قساوسة الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية خلال 70 عاماً الماضية.

كما أعلن الفاتيكان السبت الماضي قبول استقالة أسقف بولندي متّهم بالتستر على اعتداءات جنسية قام بها كهنة ضد قاصرين، في ثاني استقالة ملزمة خلال شهر، وسط إعلان البابا فرنسيس عزمه على “مكافحة الاعتداءات الجنسية في الكنيسة” التي اعتبرها “من المهمات الرئيسة لحبريته”.

وعن أسباب تفشّي الظاهرة يشرح عالم الفقه والشريعة واللاهوت، التركي نظيف آي، أن المذاهب والطرق الدينية بشكل عام تجاهلت الغوص في موضوعات الجنس والتفاعل مع الجنس الآخر على حساب التركيز على موضوعات مثل ماهو الوجود، وماهي المعرفة، وماهو الله، وماهو الموت والخلود.

يقول آي: “الأجندة الأشدّ والأكثر ثباتًا للبشر، الذين هم كائنات عاقلة، بما في ذلك صفات الله، هي الحوار والتفاعل الصحي للجنس والجنس الآخر مع بعضهما  بعضا، وبالطبع، تقاسم المتعة بينهما. إلا أن مفاهيم كالخطيئة، والحرام، والمحرم، واللعنة، التي تهمّش الحياة الجنسية وتحد منها أحياناً، وتلغيها تماماً أحياناً أخرى وتغرقها أحياناً أخرى في نزعات شاذة تتعارض مع أساس الوجود، سيطرت على المجتمعات المدنية والدينية”.

 ويفصّل آي في شرحه قائلاً إن “الأديان السماوية التي طورت الخطاب بقبول الحياة الجنسية على أنها طبيعية، وتوسعت في أدبيات الأوامر والالتزامات والمحرمات التي لا تتناسب مع نفسية المرأة والرجل، بل وحمّلت المرأة مسؤولية والتزامات ثقيلة أكثر من الرجل. ففي المسيحية ترسخ الاعتقاد بأن المرأة هي المخلوق الذي تسبب في طرد آدم من الجنة، وحتى في العصور الوسطى اعتبرت المرأة مصدراً للسحر، وصدر بحقها كتاب Malleus Maleficarum (مطرقة الساحرات) بفتوى بابوية. وفي مجموعة من الأحاديث النبوية ومعتقدات المذاهب، تم تشويه صورة المرأة بشكل عام. في اليهودية أيضاً، يتم إبقاء المرأة في مستوى ثانوي في العبادة والحياة الاجتماعية”.

وأشار إلى أنّه “في المسيحية، وبخاصة في الديانة الكاثوليكية ذات القاعدة العريضة، فإن رجال الدين حرموا من الزواج، وكأنهم بذلك قد خانوا إمكانات الدافع الجنسي والقوة الجنسية في خلقهم ومهدوا الطريق لإمكان الهرطقة. وكانت أخبار العلاقات المحرمة مع الراهبات اللاتي كرسن أنفسهن لله داخل المؤسسة الكنسية تظهر بين الحين والآخر، كما كانوا يستخدمون الأطفال كأقل شركاء جنسيين خطراً في اعتداءاتهم القبيحة، في وقت كان من الواجب أن يكون هناك فكر ديني سامٍ خالٍ من الدنيوية في الأديرة”.

ويضيف: “أما في العالم الإسلامي فقد عزز الاعتقاد بأن أطفال الجنة هم في وضع جنسي بديل من نساء الجنة، وقد انتقل هذا الاضطراب العقلي والجنسي المسمى بـ”البيدوفيليا الجنسية” الذي كان قد ترسخ في المجتمع الإيراني إلى السلاجقة وأخيراً إلى العثمانيين. ويصف المؤرخ التركي الكبير خليل إينالجيك في كتابه “Has Bagçede Ayş u Tarab” المشاهد القذرة والمخزية في الأجنحة والقصور العثمانية التي كان يعامل فيها الصبية الصغار، أو بشكل أدق الأطفال الذين كانوا يُستغلون في الجنس. كما أثرت المجتمعات الإسلامية الأخرى مثل النورية والسليمانية المنغلقة على العالم الخارجي والتي تتبع أسلوب سيدها سعيد النورسي ومبادئ العزوبية المستعارة من رجال الدين المسيحي”.

يذكر أن دراسة أوروبية كشفت أخيراً عن تعرض 1 من أصل 4 فتيات ومن أصل 6 ذكور إلى اعتداء جنسي في أوروبا خلال فترة الطفولة.