Smoke rises above buildings the southern Lebanese village of Maroun Al Ras, opposite the Israeli Moshav of Avivim during Israeli artillery shelling on October 25, 2023. Persistent rocket fire and artillery exchanges across Israel's northern border with Lebanon's Iran-backed Hezbollah militia and allied Palestinian factions, have raised fears of a new front in the ongoing war between Israel and the Palestinian Hamas mouvement. (Photo by Jalaa MAREY / AFP)

لا تزال حالة عدم اليقين تشكل جزءا أساسيا من الصورة الكلية للحرب بين إسرائيل وحركة “حماس”، ولا سيما لجهة موعد الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة وحدوده واحتمال أن يؤدي مثل هذا الاجتياح تبعا لحجمه ونتائجه لتوسع الحرب إلى جبهات أخرى أهمها جبهة الحدود بين لبنان وإسرائيل.

لكن في المقابل يمكن القول وفقا للمشهد الميداني والرسائل السياسية والدبلوماسية المتبادلة بين أطراف الحرب أن تطوراتها رست على ستاتيكو معين هو بطبيعة الحال ستاتيكو ظرفي مرشح للسقوط في أي لحظة تبعا لمتغيرات الميدان والأروقة الدبلوماسية.

إذاك لا يمكن النظر إلى الجبهة بين “حزب الله” وإسرائيل على أنها بالمطلق جبهة ثانية أو خلفية للجبهة الرئيسة بين إسرائيل و”حماس”. بمعنى أن تطورات الجبهة على الحدود الجنوبية للبنان تعكس إلى حد بعيد معادلات موازين القوى في هذه الحرب، وتحديدا بين طرفيها غير المباشرين، أي الولايات المتحدة وإيران.

بالتالي، فإن الاشتباكات والقصف المتبادل بين “حزب الله” والجيش الإسرائيلي هو في وتيرته ومواقيته انعكاس للخريطة السياسية والدبلوماسية للحرب في ما يخص حدود انخراط إيران فيها بما أنه انخراط لا يمكن النظر إليه نظرة عسكرية وحسب، بل إن طهران باشرت في توظيف هذه الحرب ضمن استراتيجيتها الدبلوماسية لجهة مفاوضاتها المفتوحة مع الولايات المتحدة.

والحال لا يمكن الفصل بين حركة “حزب الله” على الحدود الجنوبية للبنان والاستراتيجية الدبلوماسية الإيرانية في السياق الإجمالي للحرب. وهو ما يدفع في حدود معينة إلى الفصل بين جبهة جنوب لبنان وجبهة قطاع غزة. إي إنه لا يمكن الربط بين هاتين الجبهتين على نحو كلي وإن كان الفصل بينهما بالمطلق غير ممكن.

رسائل عبداللهيان

عوامل كثيرة ومتداخلة تدفع في هذا الاتجاه؛ فمن ناحية كان لافتا إعلان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان عن تلقي طهران رسالتين أميركيتين على الأقل، ومن محورين أساسيين، تؤكد أن الولايات المتحدة غير راغبة في توسيع الحرب، وتطالب إيران بضبط النفس. كما أشار إلى أن مبادرة سلطنة عمان لعودة جميع الأطراف إلى الاتفاق النووي لا تزال مطروحة.

ولا شك أن مجرد إعلان طهران عن هذه الرسائل الأميركية وتأكيد استمرار الوساطة العمانية تلك يؤشران إلى أن إيران مستعدة لـ”استثمار” الأزمة دبلوماسيا، أي إنها مستعدة للتفاوض مع واشنطن بشأنها لرسم خطوطها الحمراء وترتيبات “اليوم التالي” للحرب. وهو ما يعني عمليا أن طهران سلمت أو قبلت بأن الوضع في قطاع غزة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما قبله، وهو ما قاله الأربعاء الرئيس الأميركي جو بايدن.

طبعا لا يمكن الظن أن إيران تريد أو تقبل بـ”سحق حماس” لكنها مستعدة لأن تقبل بأمر واقع جديد في قطاع غزة عنوانه تقليص الحضور العسكري والسياسي للحركة فيه وفقا لترتيب سياسي ودبلوماسي يكون للأمم المتحدة دور رئيس فيه. وهو ما يحيل إلى ترتيبات ما بعد حرب يوليو/تموز 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل لناحية صدور القرار 1701 وانتشار قوات دولية إضافية في الجنوب اللبناني ضمن نطاق جغرافي محظور “نظريا” على الحزب بما يشبه المنطقة الآمنة.

لكن في المقابل فإن هذه الترتيبات لم تضعف الحزب عسكريا وسياسيا طيلة السنوات اللاحقة وهو ما يمكن أن يتكرر مع “حماس” لناحية حضورها السياسي والعسكري على الساحة الفلسطينية وإن كانت ستضطر إلى التأقلم مع واقع جديد.

بيد أنه لا يمكن إغفال أن الظرف الإقليمي والدولي المحيط بحرب غزة الآن أكثر تعقيدا من ذاك الذي أحاط بحرب يوليو/تموز، وهو ما يجعل حماس أمام تحد أصعب من ذاك الذي واجهه “الحزب” بعد 2006. لكن وإن قبلت إيران بالحد من الحضور العسكري لـ “حماس” فهي قطعا لن تقبل بإضعاف دورها السياسي على الساحة الفلسطينية لأنها ورقة أساسية بيدها في لحظة انتقالية على المستوى السياسي الفلسطيني ككل.

… ورسالة نصرالله

من ناحية “حزب الله” كان لافتا الأربعاء 25 أكتوبر/تشرين الأول بدء الظهور التدريجي للأمين العام للحزب، حسن نصرالله، من خلال رسالة وجهها إلى الوحدات والمؤسسات الإعلامية في “حزب الله” لاعتماد “تسمية شهداء الحزب بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول بالشهداء على طريق القدس”. ثم وزع “حزب الله” خبرا للقاء جمع نصرالله مع رئيس حركة “الجهاد الإسلامي” زياد النخالة، ونائب رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” صالح العاروري.

والحال فإن هاتين الخطوتين من قبل نصرالله، فضلا عن حركة سياسية مستجدة لحلفاء “الحزب” وبدفع منه، تؤشران إلى مرحلة جديدة في المواجهة على الحدود الجنوبية وفي تموضع الحزب من الحرب ككل؛ فالرسالة التي وزعت بخط يد نصرالله لإضفاء طابع رمزي وعاطفي عليها لم تأت نهائيا على ذكر “حماس” والحرب في قطاع غزة، بل تحدثت عن “التضحيات التي تقدم في سبيل الله على حدودنا اللبنانية”، ولم تتضمن عبارات مثل “نصرة غزة”، أو “نصرة فلسطين”، على جاري أدبيات “الحزب”. وهو ما يحيل إلى محاولة الحزب الفصل بين الجبهتين في إطار ما ذكر آنفا، أو أقله فإنه يفترض إخضاع هذا الاحتمال للمتابعة في الأيام الآتية. لكن ما يعزز هذا الاحتمال، إضافة إلى قراءة الحركة والمواقف الإيرانية، أن “الظهور” الأول لنصرالله منذ بدء الحرب تزامن مع تطورات على الحدود الجنوبية وعلى الساحة السياسية الداخلية.

جنوبا كان لافتا تراجع وتيرة هجمات الفصائل الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية إلى حد الغياب الكلي، وفي المقابل أعلن عن تنفيذ قوات الفجر التابعة لـ”الجماعة الإسلامية” في لبنان هجوما صاروخيا على الحدود، كذلك أعلن المكتب العسكري في “حزب التيار العربي”– يرأسه شاكر البرجاوي الذي كان قد طرد من منطقة الطريق الجديدة في بيروت ذات الغالبية السنية– أعلن عن إجراء مناورة عسكرية كاستعداد للانخراط في الحرب. وعلى كوميدية مناورة “التيار العربي”، فإن الهدف من ظهور مثل هذه المجموعات السنية هو إضفاء طابع إسلامي سني– شيعي ولبناني عام على المواجهات في الجنوب بعيدا عن التأثيرات الفلسطينية فيها.
وهو ما يحيل إلى كلمة السر الجديدة في خطاب حلفاء الحزب ومفادها أن “المقاومة” حريصة على المصلحة اللبنانية وتريد تجنيب لبنان الحرب الشاملة. حتى إن نصرالله اتصل شخصيا بحليفه رئيس “التيار الوطني” جبران باسيل، بالرغم من تقلبات العلاقة بينهما، ثم زار باسيل خصمه اللدود رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، وكل ذلك لخلق مناخ سياسي يشيد بـ”لبنانية” الحزب مقابل (أو بالتزامن مع) انخراطه في “محور المقاومة”.حتى إن البيان الذي وزعه الحزب عن لقاء نصرالله مع كل من النخالة والعاروري اختيرت عباراته بدقة على نحو يفهم منه أن الحزب في مرحلة إعادة تقييم لانخراطه في المعركة. وكان العاروري نفسه صرح في وقت لاحق أن “الإخوة في حزب الله منخرطون على كافة المستويات في هذه المعركة”، وذلك في محاولة لتبرئة ساحة “الحزب” من اتهامات الإخلال بمبدأ وحدة الساحات للحرب خصوصا بعد كلام الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة “حماس” في الخارج خالد مشعل عن أن “ما يقوم به حزب الله لا بأس به لكنه غير كاف”.
وهذا كله يشير إلى محاولة “الحزب” خلق “واقع جديد”، تبعا للسياق الإجمالي للحرب، عنوانه إقامة فصل معين بين جبهتي جنوب لبنان وغزة.

45 قتيلا لـ”حزب الله”

يأتي ذلك بالتزامن مع ارتفاع حصيلة قتلى “الحزب” منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى صباح الخميس 26 من الشهر نفسه إلى 45. لكن لا يبدو أن هذه الحصيلة المرتفعة نسبيا بدأت تشكل عامل ضغط شعبي وسياسي كبير على “الحزب” الذي يحاول توظيفها إيجابا باتجاهين، فمن جهة هو يحاول وضعها من خلال أدبياته وخطاب حلفائه في إطار لبناني بحت، ومن جهة ثانية يحاول أن يقيمها دليلا على مدى انخراطه في الحرب كطرف رئيس في “محور المقاومة”؛ من ذلك أن مقربين من “الحزب” يقولون إن سقوط هذا العدد من مقاتلي الحزب مرده إلى تجنبه إطلاق الصواريخ من القرى المأهولة لكي لا تقصفها إسرائيل وتعرض المدنيين للخطر، ولذلك فهو يطلقها من مسافة قريبة من الحدود، ما يجعل قدرة إسرائيل على استهداف مقاتليه أكبر. كذلك فإن الحزب يركز في إعلامه على نجاح عملياته على طول الحدود وتحقيقه إصابات مباشرة في صفوف الجيش الإسرائيلي وذلك في محاولة لموازنة الخسائر.

 

حسن نصرالله اتصل شخصيا بحليفه رئيس “التيار الوطني” جبران باسيل، بالرغم من تقلبات العلاقة بينهما، ثم زار باسيل خصمه اللدود رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، وكل ذلك لخلق مناخ سياسي يشيد بـ”لبنانية” الحزب مقابل (أو بالتزامن مع) انخراطه في “محور المقاومة”

 

 

لكن الأكيد أن “توازن الرعب” الذي لطالما تحدث عنه “حزب الله” سقط أو هو في طريق السقوط، خصوصا أن قواعد الاشتباك التي كان معمولا بها تتدحرج يوميا إلى حد الانهيار الكلي، ولا سيما أن نصرالله كان وضع معادلة في 2019 مفادها أنه مقابل أي عنصر من “حزب الله” تقتله إسرائيل سيقتل مقابله جندي إسرائيلي. وحتى لو كانت هذه المعادلة لا تنطبق على المعركة الحالية فإن ما يستدعي الانتباه أنه لا استنفار شعبيا إلى جانب “الحزب” في هذه المعركة، بالقياس إلى حرب عام 2006. وتتحدث أوساط جنوبية عن انطباع شعبي عام وكأن الناس غير معنيين بهذه المعركة. وهذا راجع في أحد وجوهه إلى التحولات التي فرضتها الأزمة الاقتصادية في لبنان. كما أن التعاطف مع “حماس” ومع الفلسطينيين عموما يأخذ وجهات إشكالية في ظل الاحتقان السني الشيعي الذي لم تنته ذيوله بعد خصوصا بعد الحرب السورية والدور المتضاد لكل من “الحزب” و”حماس” فيها. لا بل إن حرب غزة الحالية أضاءت على رسوخ هذا الاحتقان، وهو ما يمكن رصده في سياقات التفاعل الشعبي مع تطورات الحرب من بيروت وصولا إلى طهران.

لكن في المحصلة السياسية للأحداث، فإنه يمكن القول إن الكوابح الأميركية للاجتياح البري لقطاع غزة يقابل بكوابح إيرانية لانخراط الحزب في حرب شاملة ضد إسرائيل، مع فارق أن إيران تريد أن تقبض ثمن كوابحها تلك. وهو ما يحول مناوشات الجنوب اللبناني وسيلة ضغط في سياق الرسائل الدبلوماسية المتبادلة بين واشنطن وطهران. حتى إن قصف فصائل موالية لإيران لأهداف أميركية في العراق وسوريا هو من ناحية تحويل أنظار مقصود عن جبهة غزة وبالأخص عن جبهة جنوب لبنان، ومن ناحية ثانية وسيلة للضغط الدبلوماسي الإيراني.