بعد مفاوضات طويلة، صوّت أغلب أعضاء البرلمان الأوروبي أخيراً، على قانون يسمح بتطبيق قواعد واضحة وأكثر صرامة على استخدام الذكاء الاصطناعي، الذي أضحى جزءاً من الحياة اليومية في دول الاتحاد الأوروبي. كما يهدف القانون لجعل التعامل مع الذكاء الاصطناعي أكثر أماناً، لا سيما أنه كلما ارتفعت المخاطر زادت المتطلبات التنظيمية للنماذج الأساسية الخاصة به. فماذا حمل القانون من ضوابط؟
قانون شامل
القانون الشامل للذكاء الاصطناعي، والذي يعد الأول من نوعه في العالم، والمتوقع أن تدخل قواعده حيز التنفيذ في أيار (مايو) المقبل، تم إقراره بعدما تمكن البرلمان من فرض مطالبه إلى حد كبير، وحيث بات يتعين على مطوري النماذج الأساسية للذكاء الاصطناعي إنشاء “وثائق فنية” توفر معلومات حيال إجراءات التدريب والاختبار، مع ضرورة إثبات الالتزام بقانون حقوق النشر.
ومن ضمن القواعد والشروط التي شملها القانون أيضاً، أنه ينبغي تزويد المنتج المصنع بواسطة الذكاء الاصطناعي بعلامات رقمية، فضلاً عن فرض التزامات تنطوي على “مخاطر نظامية”، بما في ذلك إدارة المخاطر والأمن السيبراني، والعامل الحاسم في التصنيف أو تحديد المعايير يتم قياسه بما يسمى بـ”عمليات النقطة العائمة”.
علاوة على ذلك، لحظ القانون إمكانية تحديد الهوية البيومترية للأشخاص (التعرف على الوجه) في الأماكن العامة باستخدام الذكاء الاصطناعي، على أن ينطبق ذلك فقط على عمليات البحث المستهدفة للأفراد (ليس المراقبة الجماعية)، وعندما يكون هناك خطر على حياة الأطراف المعنية أو عندما يكون هناك تهديد بهجوم إرهابي. وبالتالي، السماح باستخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض المراقبة ضد مشتبه بهم معينين وبجرائم خطيرة.
من جهة ثانية، تقرر أنه يتعين على شركات الذكاء الاصطناعي أن تقدم “ملخصاً تفصيلياً” للمحتوى الذي تستخدمه للتدريب على نماذجها، ويهدف “شرط الشفافية” إلى تمكين المؤلفين والموسيقيين وغيرهم من المبدعين من فهم ما اذا كانت مصنفاتهم قد تم استخدامها أم لا. ومع ذلك، لن يكون هناك حق في الحصول على المعلومات التي يطلبها الناشرون، والتي بموجبها يمكن للمؤلفين الاستفسار عن استخدام عمل معين.
وكل ذلك بعد النزاعات بين الشركات الناشئة والناشرين حول مسألة ما إذا كان يجب على المطورين الكشف عن بيانات التدريب الخاصة بهم، والخلفية وجود مخاوف من أن تستخدم الشركات الصناعات الإبداعية والأعمال المحمية بحقوق الطبع والنشر دون موافقة أو تعويض. وتطالب شركات الذكاء الاصطناعي بتوضيح التطبيق العملي لذلك، والاتفاق بأقصى سرعة في الاجتماعات الفنية لإعداد التفاصيل بصورة واضحة منعاً للالتباسات.
خطر فقدان الوظائف
وبحكم أن الذكاء الاصطناعي عبارة عن أنظمة تكنولوجيا معلومات، تظهر سلوكاً ذكياً شبيهاً بسلوك الإنسان، فستحدث ثورة في عالم الاقتصاد، وستطال أيضاً طريقة تفكير أجيال بأكملها، ما سيؤثر على الوظائف، لا سيما أن الذكاء الاصطناعي يرتكز عادة على تطبيقات تعتمد على التعلم الآلي، وحيث تقوم البرامج بغربلة كميات من البيانات بحثاً عن التطابقات واستخلاص النتائج منها، وفي العديد من المجالات.
وحيال ذلك، أبرز تحقيق لصحيفة هاندلسبلات أن الذكاء الاصطناعي يمكّن الأشخاص العاديين من أن يصبحوا مبرمجين بفعل التطور الهائل، وذلك باستخدام معايير عادية في المعرفة البرمجية، وبالتالي فإن ذلك لا يؤثر على عمل مطوري البرامج أو متخصصي تكنولوجيا المعلومات فحسب، بل على وظائف الأشخاص ذوي المؤهلات العالية، وبالتالي فإن إمكانية الاستبدال في مهن تكنولوجيا المعلومات والخدمات العلمية ستكون بقدر أكبر، ناهيك عن قطاعات أخرى مثل المهارات الصحافية. وباستخدام الذكاء الاصطناعي، فبالإمكان الحصول على المعلومات وإعداد التقارير للجمهور المستهدف.
وجدير بالذكر أن استبدال أنشطة هؤلاء زادت من 20 إلى 40 بالمئة.
من جهة ثانية، أشارت الخبيرة في الخدمات اللوجستية فراوكه هايسترمان مع شبكة “إس دبليو آر” أخيراً، إلى أن قطاع الخدمات اللوجستية يستفيد من الذكاء الاصطناعي، لا سيما أن النقص الهائل في الموظفين يمكن أن يبطئ النمو في السنوات المقبلة، والصناعة تعمل على إيجاد بدائل تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتعويض العمال المهرة، فضلاً عن مساهمته بتحسين سلاسل التوريد. كما يدعم الذكاء الاصطناعي شركات الخدمات في توقعات حركة نقل البضائع وسلاسة المسارات، وحساب الطرق البديلة تفادياً لتعطلها بسبب الإضرابات أو الاختناقات المرورية، كما أن الكاميرات الذكية تساعد في فرز الطرود أو عد الحاويات. وبينت التقارير أن واحدة من بين كل خمس شركات ألمانية في القطاع تستخدم حالياً الذكاء الاصطناعي.
وفي مجال التسويق ومهن البيع بالتجزئة، يقوم مطورو الذكاء الاصطناعي بصياغة رسائل إعلانية مخصصة، واختيار الصور ومقاطع الفيديو المناسبة، وضبط الأسعار تلقائياً حسب وضع الأسواق ومتغيراته أو توقعات العملاء.
وفي مجال التصنيع سيكون تنفيذ ما يقرب تسع من كل عشر مهام في المتوسط بواسطة الذكاء الاصطناعي. وعلى العكس، ففي مجال التدريس والمهن الحرفية فالوضع أفضل بكثير بالنسبة للبشر.
ومن زاوية أخرى، أشارت هاندلسبلات إلى أن دراسة للاتحاد الدولي للروبوتات بينت أنه حتى الآن ليس هناك تقريباً أي وظائف يمكن إنجازها كلياً بواسطة الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، أضحى هناك أكثر من 280 وظيفة في مجالات جديدة، بينها على سبيل المثال، مدير ذكاء اصطناعي أو مهندس التعلم الآلي أو مستشار الطاقة المتجددة، وأنها أمست أساسية لتطوير بعض الصناعات والمهن وتحسينها.
هايلبرون مركز ابتكاري في أوروبا
تتلقى الشركات الأوروبية الناشئة العاملة في هذا المجال تمويلات بملايين اليوروهات، وتسعى دول أوروبية لتقديم الدعم للشركات، بينها تمتعها بالحماية ضد التجسس. كما تقوم الجامعات الأوروبية وبينها جامعة التكنولوجيا والاقتصاد في برلين بتطوير تطبيقات جديدة للذكاء الاصطناعي، بينها ما يمكنه التعرف على الأماكن.
وبحسب تقارير إعلامية، فإن مدينة هايلبرون جنوب ألمانيا تتحضر لتكون في عام 2027 أكبر مركز ابتكاري للذكاء الاصطناعي في أوروبا، بالشراكة مع شركة “ألف ألفا”، لكن كل ذلك، يبقى غير كاف مقارنة بالشركات الأميركية مثل “أوبن إيه آي”، وفي الصين هناك استثمارات ضخمة والشركات مدعومة من الدولة، خاصة من منطلق أن الدولتين تستفيدان من التصاميم والنشاط التطويري والأفكار التجارية.
وكانت رئيسة الاتحاد الألماني للنقابات العمالية ياسمين فهيمي قد رحبت بتحديد الاتحاد الأوروبي معايير الذكاء الاصطناعي، وحيّت، وفق ما ذكر الموقع النقابي، إدراك التكتل للحاجة إلى قواعد محددة للاستخدام التشغيلي له في عالم الأعمال، وأن تنظيمه يعد ذا أهمية حاسمة لمستقبل العمل.
ودعت فهيمي الحكومية الفدرالية ليس فقط لتقديم الدعم الفني لتنفيذ القانون، ولكن أيضاً لإنشاء إطار قانوني ذكي لإنتاج عمل جيد.
بدوره، وصف المفوض الرقمي في بروكسل تيري بريتون على منصة إكس الاتفاق بـ”التاريخي”، وبأنه أكثر من مجرد مجموعة من القواعد، ويشكل منصة الانطلاق للشركات الناشئة والباحثين الأوروبيين لقيادة السباق العالمي للذكاء الاصطناعي.