أتت التعزيزات العسكرية “الأمريكية وغيرها” إلى الشرق الأوسط بهدف صريح، هو ردع إيران عن فتح جبهة جنوب لبنان، وربما جبهة الجولان إذا سمحت لها موسكو بحرية التصرف فيها. وكلما استُخدم تعبير توسيع رقعة النزاع فُهِم منه أن المقصود هو اندلاع حرب ضخمة بين تل أبيب وطهران حصراً، رغم أن دولتين عربيتين مهددتان بتهجير الفلسطينيين إليهما هما مصر والأردن.

وصل بعض التحليلات إلى اختزال عملية طوفان الأقصى بكونها رداً إيرانياً على التطبيع العربي مع إسرائيل، بينما ذهب بعض آخر إلى إدراجها كردّ على قصف إسرائيلي متكرر لمواقع وشحنات أسلحة إيرانية في سوريا. التركيز على العامل الإيراني في الحرب على غزة يخدم العديد من الأهواء، وأولها أهواء محور الممانعة الذي أتت لأنصاره فرصة التغنّي بالقوة الإيرانية مقابل “التخاذل العربي”، في حين يزداد التعاطف الغربي مع إسرائيل بوصفها مهدَّدة من قوة إقليمية كبرى “إيران” تمتلك ترسانة ضخمة من الأسلحة، وغير بعيدة عن امتلاك النووي. أما الردّ الشعبوي لدى خصوم المحور بأن هناك قواعد للعبة بين طهران وتل أبيب، وأن طرفي اللعبة متواطئان على العرب والفلسطينيين، فهو ردّ يقدّم فقط السلوى لأصحابه من دون تقديم معرفة مفيدة بالخطر ومكامنه.

في نيروز 1935 اعتمد الشاه رضا بهلوي تسمية إيران التي تشير إلى العرق الآري، بدلاً من فارس، واقتراح التسمية الجديدة أتى أولاً من سفارته في برلين حيث كانت ألمانيا تخضع للحكم النازي. لم يكن ذلك مجرد تغيير شكلي، فالعنصرية الفارسية حقيقية، وبكونها موجَّهة إلى “الساميين” العرب ثم اليهود فهي أشمل من نظيرتها الغربية التي اقتصرت حينذاك على اليهود. التعالي على العرب موجود بوفرة في الأدبيات الإيرانية، ومحمولٌ على المشاعر القومية أو المذهبية، أو على الاثنتين معاً، ومصدره في الحالتين الهزيمة القديمة أمام ذلك الجار العربي الإسلامي الصاعد.

ما لا يأخذ حقّه من الانتباه والبحث أن التشيّع الإيراني صار بمثابة قومية تتغذّى على ذلك الجرح النرجسي القديم، بينما تضع في المقدمة منه “مظلومية آل البيت”. وهذا الإطار القومي-الديني هو أشمل من القومي الفارسي السابق عليه، لأن الثاني يرضي فقط الفرس وهم غالبية غير عظمى من السكان، بمعنى أن عدد الشيعة في إيران أكبر من عدد الفرس. مكمن الخطورة في التوليفية الإيرانية أن التشيّع الإيراني أحكم سيطرته على التشيّع العربي الذي كان لمظلوميته مطالبات مختلفة في كل بلد من بلدان تواجده، ليصبح جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية للهيمنة الإقليمية، والتي لا يمكن إلا أن تصطدم بمنافسين إقليميين أو دوليين ومنهم إسرائيل.

الذين أنشأوا الحركة الصهيونية كانوا بجزء معتبر منهم غير متدينين، لكنهم وجدوا الحل للمظلومية اليهودية في أوروبا بإنشاء وطن قومي لليهود، ليأتي هتلر بالمحرقة ويصبح مشروع الدولة اليهودية “أكثر إلحاحاً” من قبل. منذ المؤتمر اليهودي الأول حتى الآن، ما زال سارياً القول أن هذا الوطن اليهودي هو لجميع اليهود أينما كانوا، وأن لهم “حق العودة” إليه متى شاؤوا.

الاستعداد لاستقبال هؤلاء، بل حثّهم على العودة، يضمر دائماً طرد الفلسطينيين من أراضيهم والتوسّع بما يقتضيه العدد المتزايد لليهود في إسرائيل؛ هذه العقيدة الثابتة ليست مطروحة للتعديل، بل تم استباق أي تفكير فيها بقانون الدولة اليهودية الذي أقرّه الكنيست. ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية فإن العقيدة السابقة تُبقي إسرائيل على أهبة التوسع، ليأتي فائض قوتها العسكرية متطلباً توسع نفوذها الإقليمي كما يحدث عادة لكل فائض قوة.

لم تعد المظلومية اليهودية قائمة في الغرب، لكنّ عقلية الغيتو  بقيت موجودة لأن أصحابها والعنصريين الغربيين يريدون بقاءها، كلٌّ منهما لأسبابه. الانحياز الغربي إلى إسرائيل، ومحاباة اليهود في الغرب، تجاوزا كونهما نتاج عقدة ذنب بسبب المحرقة، ولعلنا لا نجافي الواقع بالقول أن التمييز الإيجابي الفاقع لا يختلف في جذره العميق عن ذلك السلبي، وهو ما يؤازر طوال الوقت إصرارَ تل أبيب على المظلومية اليهودية وكأن المحرقة تحدث للتو.

لا يُظهر الغرب اكتراثاً بآثار المظلوميتين الإيرانية واليهودية على المنطقة، ساعده بلا شك صعودُ الإرهاب الإسلامي السني، بدءاً بتنظيم القاعدة الذي نفّذ أول عملياته الكبرى قبل ثلاثة عقود، لتصبح الحرب على الإرهاب عنواناً “مشروعاً” لأولويات الغرب طيلة هذه المدة، ولتكون المفاضلة حتى الآن بين إسلام شيعي ذي مرجعية واحدة منضبطة وآخر سني منفلت. كانت بداية نشأة الإسلام السياسي السني “إحيائيةً نهضوية”، بموجب رؤى روّاده، ولا تصعب ملاحظة استلهامهم النموذج القومي الحداثي لبناء نموذجهم الخاص. المظلومية السنية لم تكن هي الأساس في البدايات، لذا لم يكن الإرهاب الذي يستهدف الغرب حاضراً، والمفارقة أن النار الأفغانية التي التهمت الاتحاد السوفيتي نضج عليها عدو الغرب الجديد.

في الحرب الحالية على غزة يتصرف الغرب وفق ما صار سياسة تقليدية، فالرئيس الفرنسي ماكرون اقترح توسيع دور التحالف الدولي ضد داعش ليشمل حماس، وهكذا يكون العنف من نصيب الأخيرة “بحكم سنيتها” رغم أنها لم تستهدف يوماً المصالح الغربية ولم تحرّض على استهدافها. التحذير الذي وجهه ماكرون لحزب الله وطهران من الانخراط في الحرب لا يرقى إلى مستوى دعوته إلى تحالف دولي ضد حماس، حتى مع توفر القناعة الغربية بأن طهران كانت وراء هجوم السابع من أكتوبر.

تمارس قوى نافذة في الغرب انتقائية في عنصريتها، ومن المؤسف أن نسبة الغربيين الذين لهم مواقف نقدية من هذه الانتقائية، ومن المظلوميات على قدم المساواة، قد لا تتجاوز نسبة المسلمين الشيعة أو السنة الذين لديهم مواقف نقدية من حكم ولاية الفقيه وحرسه الثوري ومن تنظيمات الإسلام السياسي أو الجهادي السني. ماكرون نفسه كان قد قال يوماً أن الأسد خطر على شعبه، بينما داعش خطر على العالم. رؤية العالم من هذا الثقب الصغير جداً تُترجم سراً بأن إسرائيل خطر على الفلسطينيين فقط، ولا بأس في ذلك، وإيران خطر على بعض دول المنطقة، ولا بأس في ذلك طالما أنها لا تتخطى الخطوط الإسرائيلية الحمراء.

قد لا تقتضي مصالح الغرب في المدى المنظور فهماً أفضل من الحالي، فهو ليس متضرراً مباشرةً من وقوع بلدان شرق المتوسط بين دولتين دينيتين، أو بالأحرى تقوم كلّ منهما على مظلومية ذات طابع ديني أو مذهبي، بما ينطوي عليه ذلك من دوافع ثأرية وتوسعية. التنظيمات السنية التي استلهمت فكرة المظلومية لا تبدو “بالمقارنة” أكثر من كاريكاتير بدائي مبتذل لهاتين القوتين الإقليميتين، والرهان الخاطئ هو على تقوية الكاريكاتير ليقارعهما، في حين أن الخلاص منه هو خطوة لازمة وغير كافية كي لا تتكاثر علينا وحوش المظلوميات.