شاعت شهرة والتر بنيامين، بفضل عمله كفيلسوف ومؤرخ ثقافي وناقد أدبي. لكن المنتج الإذاعي الفرنسي فيليب بودوان يكشف في كتابه “والتر بنيامين على الميكروفون: فيلسوف على موجات الأثير (1927 – 1933)” (منشورات بيت علوم الإنسان)، جانباً غير معروف من النشاط الإبداعي للفيلسوف الألماني، بين عامي 1927 و1933، يتعلق بعمله في الإذاعة، حيث سجل حوالي مئة مداخلة من الميكروفون على هوائيات برلين وفرانكفورت وسعى جاهداً إلى تجاوز الأشكال الصحافية للترفيه، التي كانت تفرضها الإذاعات حينذاك. متوجهاً نحو إعادة التفكير في المواد الصوتية التي تبث على موجات الأثير.
كما يتضمن العمل ملاحق صوتية، من بينها مقتطفات من المسرحية الإذاعية للأطفال Chahut over Kasperl، والتي بُثّت في إذاعة كولونيا في أيلول (سبتمبر) 1932.
يقدم الباحث في البداية السياق السياسي الذي شرع خلاله بنيامين في عمله الإذاعي وصولاً إلى عام 1933، عندما وضعت النازية الصاعدة حداً قسرياً للتجربة. في أعقاب حرب عام 1914، ظلت أذهان الناس موسومة بحجم المذابح والدمار، وقبل كل شيء بـ”التقنية” الجديدة للحرب الحديثة لتشهد فترة ما بين الحربين فشل الحركات الثورية في ألمانيا والمجر وإيطاليا وغيرها، وصعود الفاشية، وذلك باستخدام أحدث الوسائل، مثل السينما أو الراديو. وفي مواجهة هذا الخطر، تثبت النخبة المثقفة التقدمية أنها عاجزة. في المقابل، يذكر فيليب بودوان أن بنيامين، من جانبه، شهد، أثناء إقامته في موسكو، تجارب ثقافية سوفياتية، ومناقشات أثرت على جمهور.
احتفظ بنيامين بفكرة أن الثقافة هي خير يمكن لأي شخص أن يمتلكها، وأنه يجب علينا العمل على التقسيم التقليدي بين المنتج الثقافي والمستهلك. يعتقد فيليب بودوان، أن بنيامين يعرّف الفن السياسي على أنه “سلاح وأداة للصحوة في الوقت نفسه”. كان بنيامين مهتماً على نحو خاص بالتأثيرات النفسية للسينما والراديو على المستمع، ولكن بعيداً عن رفضها على طريقة الفيلسوف هايدغر، فإنه يأخذهما في الاعتبار.
كانت البرامج التي يقدمها الفيلسوف الألماني في الإذاعات عبارة عن قراءات لقصص قصيرة ومؤتمرات حول الكتاب ونقد أدبي، وهذا بلا شك هو السبب وراء عدم ترجمة هذه البرامج – حتى الآن – إلى الفرنسية، كما يقول الكاتب، إذ اعتبر الناشرون أنها لا تمثل إضافة كبيرة الى منجزه الإبداعي. لكن بنيامين يجرب في الراديو أشكالاً متنوعة ومبتكرة للغاية، مثل محادثات للأطفال جمع بعضها في ألمانيا، من دون أن تترجم إلى لغات أخرى. وكذلك النقاش في صناعة الأدب، والذي كان في ذلك الوقت أمراً غير مألوف، فالموضوعات التي يطرحها لا تتعلق بمضامين الأدب ولكن بمشكلات صناعته وتسويقه، أي أسعار الكتب والمقالات الصحافية حول الكتب، وتفضيلات القراء وسياقات الاستقبال، التي تكون فيها الكتب الأدبية ضمن مواسم العرض.
لكن البرنامج الوحيد الذي أعلن بنيامين رضاه عنه، في رسالة إلى غيرشوم شوليم، هو مونتاج لمغامرات كاسبرل (دمية شهيرة في التقليد الجرماني). كان عملاً مبتكراً للغاية في ما يتعلق بالمؤثرات الصوتية قياساً إلى تقنيات ذلك العصر، وقد تمكن من “إعادة إنتاج تقني للأطفال بطريقة ممتعة وجعله في متناولهم”. علاوة على ذلك، يؤكد فيليب بودوان أن حكاية الميكروفون السري المخبأ تحت سرير كاسبرل، التي أضافها بنيامين في النصر، كانت ضمنياً انتقاداً لبعض الممارسات الإذاعية في عهد جمهورية فايمار، والتي كانت تقيد نسبياً بعض الحريات المتعلقة بالنشر والتعبير.
لكن فرادة تجربة والتر بنيامين الإذاعية تكمن في الكم الهائل من الحكايات والقصص الموجهة للأطفال، التي سردها عبر الأثير على مدى ست سنوات.
يقول فيليب بودوان “لقد أذهلنا بالفعل تعدد المواضيع التي تناولها، ومدى براعته في الغش، والذي يعد إحدى خصال بنيامين الأدبية، في تعديل الحكايات وتحويرها وإعادة تشكيلها وقفاً للسياق واللحظة”. ويتساءل بودوان عن العلاقة القائمة بين السرد والاستماع. إذا كانت الذاكرة في تراجع حقيقي، بسبب إعادة الإنتاج الفني، فإن السرد هو محاولة لإعادة بنائها. والأكثر من ذلك، كان بنيامين يهدف إلى “إنعاش شخصية الراوي العتيقة من خلال وسيلة اتصال تقنية الراديو الذي يساهم في اختفائه”. وحتى لو “توقفت عقارب الساعات عام 1933″، فإن هذا الكتاب الجميل يشجع القارئ على عدم التوقف عند هذا الحد.
بعد أسابيع قليلة من وصول النازيين إلى السلطة، عاد بنيامين إلى مقعد المستمع البسيط الذي كان يشغله حتى نهاية العشرينات من القرن الماضي، إلا أن استخدامه المكثف للميكروفون أعطاه يقظة ووعياً سعى جاهداً لتقديمهما إلى جمهوره خلال برامجه الإذاعية العديدة. وخلال فترة المنفى هذه التي بدأت عندما أصبحت النازية أكثر توحشاً، سيصبح الراديو بالنسبة إليه، أكثر من أي وقت مضى، رابطاً أساسياً مع العالم والسياسة. فأثناء إقامته مع صديقه بريشت، في منطقة نائية من الدنمارك، أرسل بنيامين رسالة إلى ماكس هوركهايمر في أيلول (سبتمبر) 1934 أصر فيها على الحاجة التي يشعر بها للاستماع إلى الأخبار التي تبث على موجات الأثير. ومن المكان نفسه، اكتشف بنيامين، مذعوراً، قبل بضعة أشهر، صوت الفوهرر أدولف هتلر، لأول مرة، أثناء إعادة بث أحد خطاباته. ستظل هذه التجربة علامة خالدة على الرجل الذي ناضل حتى الآن لجعل الراديو أداة للتعليم واكتشاف العالم. وبكل الطرق التي تتعارض مع صوت الراوي الذي كانه بنيامين بالنسبة إلى أطفال برلين وفرانكفورت، فإن صوت هتلر مذهل بالغضب والكراهية التي تسكنه. ينقل فيليب بودوان عن “طغيان الكلام”، للويس غوتييه فيغنال، بأكثر تفصيلٍ غرابة وتفرد صوت هتلر، الذي لا يخلو أيضاً من تناقض روح العصر: “كان يعوي، كأنه يختنق. نحن مندهشون من أن شعباً حساساً للموسيقى مثل الشعب الألماني، ويطلب جودة الأصوات، يمكن أن يسمح لنفسه بالانبهار بصوت هتلر. لقد أظهر هذا الرجل الذكي والحيوي والماكر نفسه في خطبه على أنه رجل مجنون وكانت حالته مرضية، واضحةً في خطاباته عن الأزمات العصبية والغيبوبة الجامحة التي كان على ألمانيا وأوروبا والعالم أن يعاني عواقبها الرهيبة”.
وإدراكاً منه لقوة الراديو، قرر هتلر، في اليوم التالي لتعيينه مستشاراً للرايخ، أن يلقي “إعلانه إلى الشعب الألماني” عبر الراديو، وليس أمام الرايخستاغ كما تدعو التقاليد البرلمانية. بالنسبة إلى العديد من المثقفين الألمان، توقفت عقارب الساعات فجأة في عام 1933. ومنذ ذلك الحين، جاء الحجاب ليغطي فترة كاملة من التجارب الفنية والحرية التي كانت تعمل خاصة في استخدام تقنيات وسائل الاتصال الجديدة. لقد جرفت هذه العاصفة حماسة الرجال والنساء الذين رأوا من خلال تطور الوسائط الإذاعية ظهور مجتمع جديد متسامح وعالمي. إن الصحوة التحررية وأداة التعليم الشعبي التي رآها بنيامين وأصدقاؤه في الراديو أفسحت المجال لخطاب الكراهية وتمجيد الروح المحاربة.