بدت روسيا متخبّطة في التعامل مع الهجوم الإرهابيّ الذي استهدف قاعة موسيقيّة في إحدى ضواحي موسكو يوم الجمعة الماضي. تمثّل ذلك بخاصة في الإصرار على اتّهام أوكرانيا وداعميها الغربيّين بتدبير الهجوم على الرغم من اعتراف “داعش” بمسؤوليّته.
ما فاقم الوضع الروسيّ تجاهلُ بوتين التحذيرات الأمنيّة التي وجّهتها واشنطن إلى مواطنيها في روسيا في 7 آذار (مارس)، وقبل ذلك إلى موسكو نفسها، من احتمال شنّ التنظيمات المتطرّفة هجمات على الأماكن المكتظّة. بالمقابل، تبدو الجهود الأميركيّة الأمنيّة ناجحة إلى حدّ بعيد.
نقاط إضافيّة لبايدن؟
لا تزال أجهزة الاستخبارات الأميركيّة تظهر فاعليّة بارزة في استباق الأحداث الخطيرة. معرفتها المسبقة بهجوم “داعش” مقابل إخفاق نظيرتها الروسيّة ليست سوى المثل الأحدث على ذلك. قالت الولايات المتّحدة إنّها حذّرت إيران أيضاً من هجوم لـ”داعش” قبل وقوعه أوائل كانون الثاني (يناير) الماضي في كرمان.
يأتي ذلك بعدما تيقّنت الاستخبارات الأميركيّة من أنّ بوتين اتّخذ القرار بمهاجمة أوكرانيا، في وقت كان حتى الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي مشكّكاً بذلك التقييم. وعلى الرّغم من العداء بين الولايات المتحدة وكلّ من روسيا وإيران، حرص الأميركيّون على إبلاغ الحكومتين بالمخاطر المحدقة. يأتي ذلك في وقت بتخوف البعض من أن تستغلّ الحكومتان المعلومات الأميركيّة لمصلحتيهما في مكان آخر. لا تعني كلّ تلك المكاسب أنّها ستتحوّل بالضرورة إلى نقاط إضافيّة في الانتخابات المقبلة.
مشكلة “داعش”، وتحديداً فرعه الخراسانيّ، أنّه يعيد إلى أذهان الأميركيّين كلّ أثقال الملفّ الأفغانيّ، بما أنّ هذا الفرع يتّخذ من تلك البلاد مقراً له. منذ مشاهد الانسحاب الفوضويّ من أفغانستان، لم يستطع الرئيس الأميركيّ استعادة صافي التأييد الإيجابيّ لأدائه في المنصب. بينما كانت أرقامه في مجالات متنوّعة مقبولة بالنسبة إليه، حلّ الضرر الأكبر على الثقة بقراراته وقيادته الخارجيّة بحسب استطلاعات الرأي التي صدرت في ذلك الحين.
وتوّج الفوضى الأميركيّة في عمليّة الإجلاء الهجومُ الإرهابيّ الذي شنّه “داعش خراسان” ضدّ إحدى بوابات مطار كابول، ما أدّى إلى مقتل نحو 170 أفغانياً و13 جندياً أميركياً. وحين أمر بايدن بشنّ ضربة انتقاميّة ضدّ منفّذ الهجوم، تبيّن أنّ المستهدف كان عائلة مدنيّة أفغانيّة. لقد فشلت الإدارة تقريباً في مراحل تنفيذ الانسحاب كافّة.
صيدٌ ثمين… نوعاً ما
التحذيرات الأساسيّة التي وجّهها القادة العسكريّون إلى بايدن كانت في أنّ عدم ترك قوّة صغيرة في أفغانستان سيعيد منح “القاعدة” مراكز جديدة في البلاد. سرعان ما تبيّنت صحّة التنبيهات بعدما قضت الولايات المتحدة على الزعيم السابق للتنظيم أيمن الظواهري حين كان على شرفة أحد المنازل في أحياء العاصمة الفاخرة. صحيح الا إلى أنّ المنزل يعود إلى وزير الدفاع في الحكومة سراج الدين حقاني، وهو حليف مستقلّ لـ”طالبان”. لكنّ ذلك لا ينفي النتيجة النهائيّة وهي أنّ الظواهري عاد إلى العاصمة تحت سيطرة الحركة في نهاية المطاف.
بالطبع، مثّل استهدافه صيداً ثميناً بالنسبة إلى الأميركيّين. منح ذلك بعض الشرعيّة لادّعاء بايدن أنّه قادر على ضرب الإرهابيّين “من خلف الأفق”. على الرغم من ذلك، واجه بايدن انتقادات بأنّ الاستهداف عن بعد لا يمثّل كلّ عميلة مكافحة الارهاب. فلو شنّت القوّات الأميركيّة الخاصّة عمليّة سريعة ضدّ الظواهري على الأرض، كما فعلت مع سلفه أسامة بن لادن سنة 2011، لأمكنها الحصول على وثائق قد تكشف الكثير عن خطط مستقبليّة محتملة للتنظيم إلى جانب معلومات حسّاسة عن قادته. هذا بالإضافة إلى أنّ وجود تلك القوّات أمكنه أن يمنع أساساً وصول الظواهري إلى كابول وإعداده خططاً كهذه.
“القاعدة” تتمدّد… مجدّداً
في مجلّة “فورين بوليسي“، تشير الصحافيّة الأستراليّة لين أودونيل التي عملت في أفغانستان بين 2009 و2017 إلى أنّ “القاعدة” عادت إلى تلك البلاد وتدير مخيّمات تدريب عسكريّة وتشارك “طالبان” أرباح تجارة المخدّرات والتعدين والتهريب وترسل الدعم إلى مجموعاتها في الخارج. بَنَت أودونيل تقريرها المنشور في 22 آذار على ما وجدته شركة أمنيّة خاصّة في لندن لم ترد الإفصاح عن هويّتها.
ما يلفت النظر أكثر أنّ مادّة التقرير جُمعت من داخل أفغانستان في الأشهر القليلة الماضية، وفيها تعداد لمواقع استخراج الذهب (11) والأرباح (25 مليون دولار شهرياً لا تظهر في الموازنة) وبؤر نفوذ أخرى لـ”القاعدة”. وتؤمّن “طالبان” للتنظيم كلّ التسهيلات الممكنة، بدءاً بالأمن وليس انتهاءً بالزوجات وجوازات السفر وطرق التهريب الأقلّ كلفة.
شريك؟
إذا كان الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة في أفغانستان قد مكّن “القاعدة” من الازدهار مجدّداً في البلاد، فالأمر نفسه ينطبق على تعزيز إمكانات “داعش خراسان” أيضاً. الزميل الزائر السابق في “كلية لندن للاقتصاد” جواد اقبال كتب أنّ من النتائج غير المقصودة للانسحاب الأميركيّ تعزيز شوكة “داعش خراسان”. حتى مؤيّدو الانسحاب الأميركيّ من البلاد باتوا متردّدين في رفض هذا التحليل. من بين هؤلاء ماكس أبرامز الأستاذ المشارك في مادّة العلوم السياسيّة في جامعة نورث : “لا أستطيع عدم الموافقة مع أولئك الذين يقولون إنّ الانسحاب ساعد داعش خراسان”.
وأعرب أبرامز عن خوفه من تحوّل “طالبان” إلى شريك للولايات المتّحدة في مكافحة الإرهاب. هو خوفٌ يشاطره إيّاه الباحث في “مشروع مكافحة التطرّف” هانس-جاكوب شيندلر. فقد حذّر الأخير في مقابلة مع أودونيل من أنّ “طالبان ليست شريكاً حيوياً في مكافحة التطرّف، حتى على مستوى تكتيكيّ”.
بين الربيع والخريف
وصلت بوادر القلق إلى واشنطن. أعرب السيناتور الجمهوريّ توم الأحد عن أسفه الشديد لسقوط ضحايا أبرياء في موسكو لكنّه أضاف: “الهجمات المقبلة قد تكون ضدّ سفارة أميركيّة في آسيا أو في أوروبا أو ضدّ طلّاب مسافرين إلى أوروبا في رحلة مدرسة خلال عطلة الربيع”. ووصف كوتون، عضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، احتمال مهاجمة “داعش” للأميركيّين بأنّه “خطر جسيم”.
تستبعد التقيمات الامنية إلى الآن خطر مهاجمة التنظيم للأراضي الأميركيّة نفسها. لكنّ مهاجمة المصالح الأميركيّة في آسيا وأوروبا وارد. والأنباء الآتية من آسيا الوسطى لا تحمل بشائر سعيدة.
كتب المستشار البارز في “أتلانتيك كاونسيل” هارلان أولمان أنّ عمليّة الإجلاء الفاشلة في صيف 2021 ستكون قضيّة مطروحة في الانتخابات الرئاسيّة.نشر تحليلة قبل الهجوم الإرهابيّ على موسكو. أمّا بعده فخطر عودة الصداع الأفغانيّ إلى الواجهة بات أكثر إلحاحاً. هذه السنة، قد يتأثّر خريف الولايات المتّحدة بما يحمله ربيع أفغانستان الآن من غيوم داكنة.