عملية “طوفان الأقصى” وحرب غزة والجبهات المفتوحة لمساندة “حماس” قدمت درساً باللحم الحي للاعبين المباشرين من دون أن تعفي اللاعبين في الكواليس من العواقب الاستراتيجية.

لا شيء، حتى الدواء، تخلو مفاعيله المفيدة من أضرار جانبية. ولا حسابات، مهما تكن دقيقة في أي عملية عسكرية أو سياسية، تشكل بوليصة ضمان ضد نتائج غير محسوبة، وأحياناً معاكسة للأهداف المرسومة. فكيف إذا اكتفى صاحب القرار بنظرة ذات بعد واحد إلى أي عملية. وكيف إذا كانت العملية مرتبطة بعملية أوسع بالغة التعقيد في لعبة كثيرة اللاعبين متعددة الأهداف والوسائل، ممتدة في الجغرافيا، ومفتوحة في الصراع الجيوسياسي والاستراتيجي؟

التاريخ مملوء بالدروس، ولا سيما في الحروب التي لم يأخذ اللاعبون فيها بنصيحة المفكر الصيني القديم سن تزو، “اعرف عدوك، واعرف نفسك”. وأحدث درسين أمامنا في حرب اوكرانيا وحرب غزة. الرئيس فلاديمير بوتين غزا أوكرانيا للحيلولة دون اقتراب الغرب و”الناتو” من الباب الروسي، ولاستعادة جغرافيا المشروع الأوراسي، فاندفعت فنلندا والسويد إلى “الناتو” وجاء الغرب كله إلى أوكرانيا. والرئيس جو بايدن وقادة أوروبا أرادوا إضعاف روسيا في حرب استنزاف، وقعوا هم أيضاً في استنزاف وتعب من تقديم مزيد من المال والسلاح لكييف.

عملية “طوفان الأقصى” وحربغزة  والجبهات المفتوحة لمساندة “حماس” قدمت درساً باللحم الحي للاعبين المباشرين من دون أن تعفي اللاعبين في الكواليس من العواقب الاستراتيجية، “حماس” زلزلت إسرائيل، لكن الثمن كان أكبر من تدمير غزة.

 

شارون اختار الانسحاب من غزة عام 2005 وتفكيك المستوطنات لنسيان القطاع وتحدياته، فلحقته غزة مع شعار تحرير فلسطين. نتنياهو راهن على الانقسام بين الضفة الغربية وغزة وعمل كل الممكن لتعميقه، لأن الخلاف بين “حماس” والسلطة الفلسطينية بقيادة “فتح” هو “ضمان ضد قيام دولة فلسطينية”، كما قال لنواب كتلته عام 2019، لكن حرب “القضاء على (حماس)” أعادت ملف الدولة الفلسطينية في أميركا وأوروبا وبقية العالم إلى الصدارة، والتوحش في قتل المدنيين الفلسطينيين قاد إسرائيل إلى عزلة حتى عند أصدقائها الذين صاروا يخشون من الدفاع عنها.

وفتح جبهة الجنوب بقرار من “حزب الله” لإسناد “حماس” وربط كل شيء في لبنان بنهاية حرب غزة، قادا إلى ربط آخر ضمن معادلة جديدة: لا عودة إلى ما قبل السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في غزة، ولا عودة إلى ما قبل الثامن من أكتوبر في الجنوب، فضلاً عن انكشاف النواقص في استراتيجية “الردع المتبادل”. فالردع يحمي لبنان عبر منع العدو من الاعتداء عليه خوفاً من الثمن الباهظ الذي يدفعه على الجبهة الداخلية، لكن الردع يسقط إذا قرر العدو أن ما يحققه في الحرب ضروري له بصرف النظر عن خسائره التي يستطيع تحملها.

وهذه هي الحال اليوم، “المقاومة الإسلامية” لا تستطيع حماية لبنان من الدمار، وإن كانت قادرة على إحداث دمار كبير في إسرائيل. وما يحمي لبنان هو تطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته، إلى جانب نوع من الردع لا يخلخل تطبيق القرار، وكله تحت المظلة الدولية. أما إذا كانت خسائر لبنان بفتح الجبهة الجنوبية تأتي في الحسابات على هامش ما يربحه “محور المقاومة” ومشروعه الإقليمي، فإن حماية لبنان خارج الموضوع. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ما نحتاج إليه وسط الشعارات البراقة هو “البحث عن الحقيقة في الوقائع” بحسب تعبير صيني يكمله قول دينغ شياو بينغ، “عبور النهر مع تلمس الصخور”.