صدرت “بنت السلطان”، وهي مجموعة قصصية لإحسان عبد القدوس عام 1965، وتضم 33 قصة قصيرة يتجلى فيها أسلوب عبد القدوس السلس، مع نزعاته الليبرالية التي تعاين مشكلات المجتمع المحلي من علٍ أحيانًا، ولا تحفل كثيرًا بإكراهاته وتعقيداته. تتحدث إحدى قصص المجموعة “تزوجت نجمة” عن خريج تجارة ضل طريقه إلى عالم المال والأعمال ليجد نفسه ناقدًا فنيًا، وبدأ ذلك عندما اصطحبه أحد أصدقائه الصحافيين إلى أحد الاستوديوهات، وهناك يصاب بالصدمة لرؤيته فاتن حمامة. لقد بُهِر بها عندما رآها بشخصها، بلحمها وعظامها، وبُهِر أكثر عندما اكتشف أنها ليست تعيسة حزينة دائمًا كما تبدو على الشاشة.
فاتن حمامة التي يَرِد ذكرها عَرَضًا في القصة تصبح بطلة فيلم مأخوذ عن قصة أخرى في المجموعة، “إمبراطورية ميم” (إخراج حسين كمال/ إنتاج عام 1972)، ويكتسب الفيلم، وهو أقرب إلى حكايات ما قبل النوم، أهمية استثنائية كون نجيب محفوظ هو من أعده للسينما، محوّلًا نصًا يتراوح عدد صفحاته ما بين 10 ـ 15 صفحة، حسب طبعات المجموعة القصصية، إلى بنية متماسكة تصلح للمقاربة السينمائية، فثمة إضافات حاسمة قام بها الحائز على جائزة نوبل للآداب لتحويل النص، وهو مفرط في بساطته كيلا نقول سذاجته، إلى عمل سينمائي.
بدايةً أصبح بطل الفيلم امرأة، وليس رجلًا، كما هي حاله في النص القصصي، وأرملة تحديدًا، بينما لا يموت شريك بطل القصة الأصلية، الأمر الذي منح محفوظ فرصة إنشاء مسار درامي في الشريط السينمائي لم يكن موجودًا أصلًا، وهو محض عاطفي للبطلة (فاتن حمامة) لمنحها نوعًا من ميكانزمات الدفاع عن النفس، والتماسك، في رحلتها التي يفترض أن تكون وعرة للحفاظ على أسرتها الكبيرة (ستة أبناء تبدأ أسماؤهم بحرف الميم).

أبقى محفوظ على الثيمة الرئيسية لقصة عبد القدوس، وهي الفجوة بين الأجيال، التي وظفها عبد القدوس لمقاربة مفهوم نظام الحكم في مصر ستينيات القرن المنصرم، فأحد الأبناء يقترح مقاربة صادمة للأب، وهي ضرورة التراجع خطوة إلى الوراء في رعاية أسرته، وعليه بالتالي أن يقر باشتراكية “إدارة الثروة” بالتوازي مع “دمقرطة الإدارة”، أي تفكيك تمركز القوة والثروة في يد الأب، وإذا فعل الأب ذلك فعليه أن يثبت جدارته بالموقع والمكانة بالتصويت لا بحيازة الثروة والنفوذ.
وأظن أن عبد القدوس الذي كانت نزعاته الليبرالية أعلى شأنًا من كثير من نصوصه، كان يريد إيصال رسالة إلى نظام عبد الناصر بأن عليه أن يتغيّر، وأن يكتسب مشروعيته عن جدارة، وبالتصويت لا بالقوة، وتلك تشكل أزمة للأب في القصة الذي يجد نفسه مضطرًا في نهاية المطاف لتنظيم انتخابات يفوز فيها بالإجماع، فلم يكن المقصود إقصاؤه من موقعه، بل تغيير مشروعيته وتجديدها.
الفكرة تنتمي إلى الستينيات، وإلى مجتمع حُكم بالعسكر والشعارات الاشتراكية، وقاربها عبد القدوس من داخلها لإصلاحها لا تفجيرها، فهو كان ابن النظام وصعد معه، وإن احتفظ بهامش لنقده، وهذا بالضبط ما شكّل مصدر إخفاق المعالجة التلفزيونية الجديدة للقصة، وجعلها تبدو منفصلة عن الواقع تمامًا، فليس سؤال الأجيال الجديدة هو حقها في صنع القرار في الأسرة فقط، بل أسئلة أخرى أكثر تعقيدًا، وهو ما فشلت فيه المعالجة التلفزيونية الأخيرة التي قدّمت إمتاعًا يتسم بالخفة. المسلسل من بطولة خالد النبوي، الذي أخذ يبتعد في السنوات الأخيرة عن الأدوار المركّبة، ويتوجه إلى الدراما الاجتماعية اللايت، مثل هذا المسلسل، و”راجعين يا هوى”، وهو ما يخصم من رصيده للأسف، ولا يضيف إليه.
يجدر الذكر هنا أن المعالجات الجديدة لكثير من الأعمال الدرامية القديمة تبوء بالفشل، لا لجاذبية النسخة الأولى وطغيانها وحسب، بل لأن إعادة الإنتاج نفسها تفتقر إلى الخيال الذي يقارب العمل القديم بما يضمن التواصل والقطيعة معه في الوقت نفسه، وهذا يحتاج إلى الخيال والجرأة، أو القسوة في القطيعة، بالحذف والإضافة، حتى لو خيّل للمراقب للوهلة الأولى أنه يتابع عملًا مختلفًا تمامًا عن العمل الأصلي، وأظن أن مقاربة نجيب محفوظ الخلّاقة لقصة إحسان عبد القدوس الأصلية مثال على الخيال المفترض لكاتب السيناريو في مقاربته للنص الأصلي، أو المعالجة الدرامية الأولى.