مشهد من مسرحية “تاج العروس” السورية (خدمة الفرقة)

لطالما اقترن اسم المؤلف الموسيقي محمد هباش مع الشاعر محمد عمر في صياغة العروض لا سيما مع فرقة “إنانا” السورية التي انطلق بها  جهاد مفلح مع بداية الألفية الثالثة ليكوّن مع كلٍ من مواطنيه هباش وعمر ثلاثية الرقص والشعر  في تجارب مسرحية لافتة. كان أبرزها “هواجس الشام” و”صقر قريش” و”جوليا دومنا”. هذا التعاون يشهد اليوم غياباً لمفلح مع الحلة الجديدة للفرقة في عرض “تاج العروس” والذي تخلّف عنه مدير الفرقة ومصمم رقصاتها، فيما حضر كل من هباش وعمر بإدارة المخرج الشاب أحمد زهير

ويروي “تاج العروس” الذي أنتجته “شركة دانس للرقص المسرحي” بالتعاون مع دار الأوبرا السورية قصة حب بين الفتاة العربية وجيدة (رنيم ملط) والشاب الغجري خابيرو (معتصم عمايري)، إذ تجري أحداث هذه القصة عام 1485 في إشبيلية، ومع بدايات خروج العرب واليهود من الأندلس بعد عقود من الاستقرار والازدهار والتعايش السلمي بين الطوائف، ومع دخول القوات الإسبانية يقع أميرها ألفونسو (جوان تتر) في حب وجيدة، لتصبح الحسناء في حيص بيص من أمرها، فهل تحظى بالسلطة والمال مع الأمير الذي تسيطر قواته على البلاد والعباد، أم تذهب مع حبها الأول مغني الفلامنكو وعازف الغيتار؟ وعندما تختار وجيدة حبيبها الغجري يُحكم عليها بالموت، وتقضي مع عشيقها بسيف ألفونسو عروساً يكون تاجها النار والدم.

يبدأ هذا الميوزكال بكشف الستارة الحمراء لدار الأوبرا في دمشق عن قصر إشبيلية بأقواسه الحجرية ومقرنصاته المشيدة على طريقة العمارة الإسلامية (ديكور غيث المحمود) لتشرع معها مجاميع  الراقصين (كريوغراف رنيم ملط) برواية حكاية الحب المحرّمة، وما يكتنف هذه الحكاية من استعراض للواقع التاريخي في الربع الأخير من القرن الخامس عشر، وما تلاه من هيمنة محاكم التفتيش في سائر أرجاء أوروبا، فينقضي الزمن الذهبي للحب والشعر والموشحات، ليبدأ عصر المحارق والمقاصل والإعدامات الجماعية، وما تضمن ذلك من مصادرة للأفكار والعقائد والاغتيال على الشبهة، ومحاربة الأفكار التنويرية وسيادة الذهنية الرجعية، وإحراق المكتبات وقتل العلماء والتنكيل بهم.

ومع هذه الفاصلة التاريخية من حياة الأندلس وأوروبا قاطبة يقاطع مخرج العرض وكاتبه مع الهجرات غير الشرعية في الزمن الراهن، وذلك عبر لقطات تسجيلية على شاشة وضعت في عمق الخشبة تصوّر غرق قارب مليء بالمهاجرين المغاربة قبالة الشواطئ الإسبانية، وموت كل من كان على متنه. فبعد أن تمت هجرات العرب واليهود من الأندلس قبل نيف وخمسة قرون، تعود قوارب المهاجرين للإبحار نحو موطنها الأصلي في شبه الجزيرة الإيبيرية، فتتكرر مآسي الأمس على شكل هجرات معاكسة، وينهض “تاج العروس” من كبوته الطويلة ليسرد لنا قصته الدامية المتجددة على لسان الشاعر أبي البقاء الرندي (كفاح سلمان)، وقصيدته الشهيرة عن أفول عصر الأندلس، وذلك عندما يقول: “لكلِ شيءٍ إذا ما تم نقصانُ، فلا يغرُّ بطيب العيش إنسانُ، هي الأمور كما شاهدتها دولٌ، من سرّه زمنٌ ساءته أزمانُ”.

أبيات شعرية وظّفها كاتب “تاج العروس” ومخرجه في متن العرض المسرحي الراقص، لينتقل بنا إلى سرد حركي جماعي عبر جهد ستين راقصاً وراقصة قاموا بأداء ما يقارب خمسة عشر لوحة على أنغام أكثر من مزاج موسيقي وغنائي، فمن حلقات الذكر ولوحتي “يا حي يا قيوم” و”أمركَ كن فيكون” إلى رقصات الفلامنكو والدبكة، مروراً برقصات جسّدت مشاهد أسواق إشبيلية ودمشق والعرس الشعبي والتراتيل الكنسية لترنيمة “مريم”، وصولاً إلى لوحات جسّدت دخول الغزاة ومعاركهم، ولوحة وداع إشبيلية وموت العاشقين على وقع قصيدة لسان الدين ابن الخطيب: “جادك الغيث إذا الغيث همى، يا زمان الوصل في الأندلس”.

ولعبت إضاءة الفنان ماهر هربش دوراً جوهرياً في هذه المغناة الراقصة، فقدمت مستويات متعددة من اللعب على حواف الخشبة ومقدمتها، وإغناء العمق للقاعة الرئيسية في دار الأوبرا السورية، آخذةً في الحسبان الأزياء (أحمد منصور) كعناصر بصرية متحركة على المسرح، وما تتركه أزياء الراقصين من أثر متبدل مع كل أداء جماعي للوحات العرض، والتي غاب عنها التصاعد الدرامي لمصلحة منح الرقص دوراً رئيسياً في سرد حكاية العرض، ويبدو هذا الخيار غير موفق لجهة تحويل الممثلين إلى راقصين، من دون أن ينجح هؤلاء في أداء رقصٍ إفرادي (سولو) يمنح الحكاية أبعادها الدرامية المرجوة، بل ظلوا جزءاً من الرقص الجماعي، واستحالوا إلى تفصيل في نِمرة استعراضية صرفة، بدلاً من دفع الصراع نحو الأمام.

هذا الخيار أخذ العرض إلى متتاليات راقصة بدت موسيقاها مقتبسة من مسوّدات لفرقة إنانا، ولا سيما أن لوحات عدة من “تاج العروس” أعادت للذاكرة مشاهد من عروض “صلاح الدين الأيوبي” و”الملكة خاتون” وسواها من العروض التي كتبها محمد عمر ولحنها محمد هباش للفرقة الأم “إنانا”، وما فاقم هذا الانطباع هو الاعتماد على ديكورات ضخمة إلى جانب شاشات ذكية احتلت عمق المسرح، من دون أن يقدم الإخراج حلولاً حاسمة حول التوفيق بينها وبين أعمدة قصور إشبيلية وأسواقها، فحجبت قطع الديكور مشاهد من المادة الفيلمية المعروضة على الشاشات، فيما كافحت الإضاءة وحيدةً للتوفيق بين البصري والفرجوي دونما جدوى.

 

وبدا الاقتباس واضحاً لأسلوب فرقة إنانا للمسرح الراقص مع وجود كل من راقصي الصف الأول في عرض “تاج العروس”، من مثل إيمان كيالي ومحمد طرابلسي وآية قنواتي ومعتصم عمايري، وهذا ما كان جلياً حتى مع الأداء الحرفي لتحية الجمهور الخاصة بفرقة “إنانا” في لوحة “هيلا هيلا”، وما اكتنفها من تراتبية في مواجهة جمهور الأوبرا السورية، بدءاً من الراقصين والممثلين الجدد، وانتهاءً بكل من الممثلين والراقصين الرئيسيين ناهد الحلبي وغسان الدبس وعلي عكروش ومحمد عيسى، ووليد الدبس، وختاماً بمخرج العرض وطاقمه الفني.

ويرسل العرض إشارة قوية عن عودة لمسرح راقص كان له حضور كبير في الحياة الثقافية السورية ما قبل اندلاع الأحداث الدامية في البلاد في مارس (آذار) 2011، لكن معظم المشتغلين في “تاج العروس” لم يطلعوا على ما قدمته الفِرق التي تأسست في ظل الحرب، وما أنتجته من أشكال وقوالب جديدة على صعيد صياغة جذرية للفضاء المسرحي، والاستغناء عن الديكورات الضخمة لمصلحة سينوغرافيا معاصرة جل أدواتها تعتمد على الرسم بالضوء والفيديو مابينغ والغرافيك، فيما يبقى القالب الفني الذي قدمه “تاج العروس” تقليدياً، وبعيداً بعض الشيء مما شهده المسرح السوري على مدار عقد من الزمن من تطوير لمفهوم العرض الراقص، ومن الاستغناء عن كل ما يمكن له أن يصادر على مخيلة الجمهور، والذهاب نحو مقترحات أكثر تجريداً للجسد الراقص، وأكثر ابتعاداً من صيغ الرقص السياحي الذي يباهي بميزانيات إنتاجية ضخمة على حساب جدة المقترح الفني وقيمته الفكرية.