على أثر الأحداث المتعاقبة في غزة منذ صباح السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة كما لم يحدث منذ سنوات، الصراع الإسرائيلي العربي الذي يستمر منذ أكثر من سبعة عقود تصدر الشاشات خبراً عاجلاً وتحليلاً ونقلاً مباشراً، في حين أضحت وسائط التواصل الاجتماعي منبراً للنقاش، تعويضاً عن عجز المواطن العربي أمام هول مشهد الدمار وخسارة الأرواح في غزة.
على امتداد العقود الماضية، كانت فلسطين مادة سينمائية دسمة، فحضرت على الشاشة طولاَ وعرضاً، سواء بعدسة من يسمون “فلسطينيي الداخل” أو مَن يعيشون في المهجر، أو حتى بمبادرة من الأوروبيين الذين موضعوا كاميراتهم في ربوعها لالتقاط واقع لا يشبه أي واقع آخر في العالم، هذا جراء العيش تحت الاحتلال ونظام الفصل العنصري.
للسينما طرح متمهل وعميق يصنع فرقاً واضحاً، وهو يختلف عما نراه في وسائل الإعلام العربية والأجنبية من خلال المتخيل وإعادة تشكيل الواقع، ينبش السينمائيون في أزمة العيش الفلسطيني، مع تركيز محبب على التفاصيل المستلة من الاحتكاك بالشؤون اليومية والتحديات المكتررة التي يواجهها الكائن الفلسطيني، يتبدى هذا جلياً من خلال معاينة بضعة أفلام فلسطينية تعرضها منصة “نتفليكس” حالياً، وينبغي التوقف عندها.
في “عمر” (2013)، الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في قسم “نظرة ما” في مهرجان “كان” السينمائي، يواجه المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الإسرائيلي في الأراضي المحتلة من خلال طائفة من الشخصيات، عمر (آدم بكري) الذي يقفز فوق الجدار العازل ليلتقي حبيبته نادية (ليم لباني) قبل أن ينضم إلى صفوف مقاومة هزيلة تقف في مواجهة العدو، هو الذات الأخرى لسينمائي يعيش حيرة مزمنة، لكنها لم تضيع بوصلته أبداً، لا أخلاقياً ولا سينمائياً.
قضايا راهنة
أراد أبو أسعد دمج حكاية فيلم “الكرنك” لعلي بدرخان بحكاية حقيقية عاشها صديق له، يوم راحت الاستخبارات الإسرائيلية تصر عليه ليتعاون معها بعدما وضعت يدها على سر من أسراره. أضاف إليها قليلاً من الوسترن والثريللر، مع الحرص على أن تكون قصة الحب جزءاً من الفيلم. عن شخصية عمر الإشكالية، يقول أبو أسعد في مقابلة إنها شخصية إنسان مبدئي، كرامته فوق كل اعتبار. وهو كمخرج يشعر بأن في إمكانه أن يعيش ما عاشه عمر، وأن يتعرض لما تعرض له، ذلك أن كليهما لا يتقبلان الإهانة.
هناك قضايا عدة متفرعة من الفيلم، من المقاومة غير المجدية لإسرائيل إلى مسألة العمالة معها… إلى هذا كله هناك أيضاً موضوع الثقة الذي يشكل إحدى ركائز الحب والصداقة في حياتنا اليومية بحسب أبو أسعد، الذي أراد طرحاً “آدمياً أكثر مما هو إنساني”، على حد تعبيره. “عمر” أقل أفلامه تضميناً للسياسة. الشق السياسي الوحيد فيه يتجلى في طرحه السؤال عن كيفية مقاومة الاحتلال. يعتبر أبو أسعد أن القياديين الفلسطينيين عندما يتركون الكفاح المسلح في يد عناصر لا تملك أي تجربة، فحينها تتحول المقاومة إلى مصيبة، مشدداً على فكرة ان أصحاب التجربة تركوا مَن هم أصغر منهم سناً وخبرةً يتخبطون أمام العدو. لا يوفر أبو أسعد الفلسطينيين من نقده، خصوصاً عندما يرينا كيف يتقاتلون مع بعضهم بعضاً، لأسباب لا علاقة لها بالاحتلال. فهذا ما يحصل عندما تغيب “القيادة الحكيمة”.
في “حبيبي راسك خربان” (2011) وهو الفيلم الطويل الأول لسوزان يوسف (عرض في مهرجان البندقية السيينمائي) تنتصر المخرجة الفلسطينية، للحرية الفردية في أرض محتلة. الواقع، من الاحتلال والتضييق على الحريات إلى الأصولية الدينية التي تمارسها حركة “حماس”، كان ملهمها الأساسي في هذا العمل الذي استوحته من تجربتها الشخصية. تشير يوسف إلى الأشياء بأسمائها، ببساطة ساذجة أحياناً معتقدةً أن البوح يحل المشكلة. تصور يوسف غزة سجناً قبيحاً لا منفذ له سوى من جانب البحر.
انطلاقاً من تنويعة جديدة لحكاية “مجنون ليلى”، تتسلل يوسف إلى داخل يوميات فلسطينية فيها كثير من الشقاء. المخرجة الشابة تصور اللحظة هذه، لحظة الانهيار، لحظة الفخ، لحظة عودة التمرد الموقت إلى العش الجماعي الدافئ الذي يسهر عليه “حماة الدين والأخلاق الحميدة”. تعرفنا أيضاً إلى قيس (قيس ناشف)، هذا التائه الضعيف الشخصية، يتمتم كلمات غير مفهومة، وهو يعبر مساحة زمنية من دون أن يجد لنفسه مكاناً في حضنها. هو هذا الرقم الخاسر في زمن فلسطيني صعب. قبالته، تقف حبيبته ليلى (ميساء عبد الهادي)، التي خانها حظها فولدت انثى في بلاد تعاني شتى أنواع الاحتلال النفسي والتمييز ضد الضعيف. بينهما، ثمة حقيقة مؤلمة يتشارك في صنعها كل من إسرائيل وحركة “حماس”. الاحتلال سيعرف كيف يبتلع الحب، وأي كتف من أكتافه تنهشه. أما الشعر فليس سوى فتافيت.
عقبات كثيرة
قدمت المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر العام 2007 فيلم طريق متنقل يعتمد على بناء سردي مكثف. السيارة هي شخصية أساسية تحملنا من بقعة إلى أخرى، في داخلها رجلان (أب وابن – يلعب الدوران محمد بكري وصالح بكري) اتفقا أن يختلفا على الدوام، وهما مجبران على التعايش على رغم الاختلاف الكبير في نظرتهما إلى الحياة، من أبسط مسألة وصولاً إلى القضية المركزية وهي الصراع مع إسرائيل. الفيلم يتناول أيضاً صراع الأجيال، على نحو تتماهى المخرجة مع الشخصيتين، فتصبح حيناً الأب وحيناً آخر الابن. أما مهمتهما، فهي دق أبواب بيوت الأقرباء والأصحاب لتسليم دعوات لعرس. ذلك أن التقاليد الفلسطينية القديمة تفرض تسليمها باليد. ثمة اقتحام جميل لخصوصية المنازل الفلسطينية وتفاصيلها، وهذا شيء وجوده نادر في السينما العربية. لكن طبيعة الحكاية فرضت هذا الاقتحام، وهي أيضاً سمحت بهذا القفز المتواصل بين العام والخاص.
يحملنا “واجب” في رحلة عبر الناصرة، وكأنه يريدنا شهوداً على الظروف الصعبة التي يعيشها أهل المدينة الفلسطينية، لكن من دون أي محاولة لاستدرار العواطف، فهذا فخ تعرف المخرجة كيف تتجنبه. مأساة العيش تحت الاحتلال حاضرة في التفاصيل اليومية وإن لم تكن ظاهرة، وهذا لا يمنعنا من الضحك على عبثية المواقف، لأن جاسر تصنع فيلماً صادقاً حيث الحياة تسير دربها المعتاد على رغم كل شيء. وقد يبدو الضحك ضرورة لتجاوز الحالة المزمنة التي يعاني منها الجميع.