في عرضها الجديد “زنوبيا” الذي قدمته على مسرح الجمهورية، في وسط القاهرة، مع فرقة “فرسان الشرق”، التابعة لدار الأوبرا المصرية، سعت المخرجة كريمة بدير إلى إحداث مقدار من التوازن بين الكلمة والحركة. معظم عروض هذه المخرجة تنتمي إلى الرقص المسرحي الحديث، الذي يغلب عليه التعبير بالجسد، مبتعداً تماماً عن الكلمة، لكنها هنا أفردت مساحة واسعة نسبياً للكلمة، التي صاغها شعراً ونثراً الكاتب محمد زناتي.
تعاون الثنائي بدير وزناتي من قبل في عرضي “حتشبسوت” و”إيزيس”، وكانت الكلمة حاضرة، لكن بشكل خافت، وجاءت كإشارات سريعة، أو مفاتيح تجلي ما قد يضمره الرقص، أو يغيمه بالنسبة إلى المشاهد غير المعتاد على هذه النوعية من المسرح، لكن الكلمة هنا كانت أكثر حضوراً وتأثيراً، وأكثر اتساقاً مع القضية المطروحة، التي لم تنشغل فقط بحكاية الملكة الشهيرة، بل انشغلت أيضاً بقضية معاصرة تخص هنا والآن، لتبرر استدعاء ملكة الشرق زنوبيا.
سيرتان للملكة
هذه الملكة، التي جمعت بين القوة والجمال والذكاء، لها سيرتان، الأولى شعبية وتسميها “الزباء”، وتحفل بكثير من القصص، ربما أشهرها قصتها مع عمرو بن زيد، وكلمتها حين تعرضت للموت، والتي صارت مثلاً شعبياً هو “بيدي لا بيد عمرو”، تعبيراً عن قوة إرادتها وشجاعتها. هي سيرة رجح معظم المؤرخين أنها لشخصية أخرى متخيلة، وليست واقعية. أما السيرة الأخرى فهي مختلفة تماماً، وهي لشخصية واقعية تحدث عنها المؤرخون، نعرف منها أنها تزوجت بأذينة ملك تدمر، الذي قتل في معركة حمص عام 267م، وتولت هي الحكم من بعده، واصطدمت بأقوى دول العالم وقتها، وكسرت أنف الإمبراطورية الرومانية، وغزت مصر عام 270، وبسطت نفوذها على آسيا الوسطى، وأتقنت لغات عدة، منها المصرية القديمة، إلى جانب لغتها الأصلية الآرامية. وأخيراً أسرها القائد الروماني أورليان، بعد هزيمتها ومحاولتها الفرار، وساقها إلى روما مكبلة بالأغلال.
بعض الروايات زعمت بأن زنوبيا ماتت بتجرع السم، لكن عدداً من المؤرخين رفض الاعتداد بذلك لعدم توافر أية أدلة. يقال إن الإمبراطور لم يقوَ على اتخاذ قرار بقتلها، فأمر بنقلها إلى روما. وهناك أيضاً روايتان عن نهاية زنوبيا، بعض المؤرخين يقول إن حياتها انتهت في منزل متواضع، والبعض الآخر يقول إنها اقترنت بأحد حكام الولايات الرومانية، وعاشت في قصر قرب منطقة تيفولي وأنجبت منه بنات عدة، ومن سلالتها تحدر الراهب “زنوبيوس” الذي عاش في القرن الخامس في فلورنسا .
فكرة الانتحار
أياً كان الأمر فإن العرض تبنى فكرة انتحارها بتجرع السم. صحيح أن ذلك لم يرد في أحداث العرض، لكن الربط بين تلك الفتاة العصرية التي ظهرت في بداية العرض محاولة الانتحار بالسم، وبين زنوبيا، يشير إلى تبني فكرة انتحار الملكة. هي نقطة غير إشكالية أساساً، ولا تؤثر في رسالة العرض، فضلاً عن أنه ليس مطالباً بنقل الواقع، غير المتفق عليه أصلاً، بكل تفاصيله.
أحداث العرض تبدأ مع فتاة تنتمي إلى عصرنا هذا، تحاول الانتحار بعد أن يئست من حياتها. يظهر لها روحان هائمتان في الوجود – بحسب ما تخبرنا به أحداث العرض – رجل وامرأة، يتحولان في ما بعد إلى راويين. تشجعها المرأة على الحياة قائلة: “اشهري في وجه الألم نداء الحياة”، بينما يشجعها الرجل على الموت: “الروح لا تقبل أن تحيا في منفى جسد بائس”. تصر الروح المشجعة على الحياة على مواصلة طريقها، وتقدم للفتاة نموذجاً يتمثل في قصة الملكة زنوبيا، مستعرضة شجاعتها وقوتها، وإصرارها على تحقيق أهدافها، حتى لوتعرضت للهزيمة والأسر. وفي النهاية تقوم هذه الفتاة نفسها، بفك أغلال زنوبيا، وكأننا أمام دعوة إلى فك أغلال المرأة عموماً، بيدها لا بيد غيرها، وتحريرها من كل ما يكبلها من قيود، بل إن العرض يمد الخيط على استقامته، لا ليشمل المرأة فحسب، ولكن ليشمل الإنسان عموماً، كأن تردد زنوبيا في نهايته: “يا كل المحبين، يا كل الظمأى الهائمين، اجعلوا من أجسادكم أنهاراً وبحاراً للعاشقين، وخذوا من الضوء ثماراً وأشجاراً للحالمين، ومن أصواتكم وقوداً لصرخات الثائرين، ومن دمائكم اغزلوا قصيدة يترنم بها كل الناسكين، واجعلوا الروح شمعة تضيء حينما يرحل القمر، وتأبى الشمس أن تستجيب، وكلما سمعتم عصفوراً يغرد للغد الجميل رددوا معه من أعماق أعماق قلوبكم: آمين”.
راقصون مهرة
استعانت المخرجة في أدوارها الرئيسة بمجموعة من الراقصين المهرة (ياسمين بدوي ودنيا محمد وفاطمة الشبراوي ومحمد خالد ومحمد هلال وإبراهيم خالد ونادر جمال وباسم مجدي وأحمد عاطف وهنا مصطفى ونور عمر وهاني حسن وأشرف كوداك)، ومي رزيق (امرأة العصر)، ومريم عاطف (امرأة الحياة)، ويوسف مصطفى (رجل الموت). صاغت عرضها في لوحات متتابعة، مستعينة بموسيقى أعدها محمد الناصر، كانت قادرة على تصوير لحظات الحب والانتصار واليأس والهزيمة ومنح الطاقة للراقصين ومواكبة البيئات المتنوعة التي دارت فيها الأحداث، معبرة عن طبيعتها وتراثها، لكنها لم تمهد لكل هذه الانتقالات بموتيف موسيقى يهيئ المشاهد للنقلة التالية، فبدت مقطوعة الصلة بما قبلها. ربما تقع المسؤولية هنا على المخرجة التي لجأت إلى الإعتام بين لوحة وأخرى، من دون البحث عن حلول إخراجية تؤدي إلى بناء أكثر تماسكاً وإحكاماً، بخاصة أن لديها عدداً كبيراً من الراقصين كان يمكن استخدامهم لسد مثل هذه الفجوات.
تنوعت الرقصات ما بين الرقص الفلكلوري، الذي بدا مثلاً في غزو زنوبيا لمنطقة الأناضول، والرقص التفسيري Interpretive Dancing الذي احتل المساحة الكبرى، سواء في تصوير الحروب، أو المؤامرات، أو لحظات الحب، والانتصار، والهزيمة. وبدا واضحاً أن الراقصين هنا ينصتون إلى أجسادهم جيداً ويترجمون ما يشعرون به إلى حركات انفعالية، مفعمة أرواحهم بالجرأة والمغامرة، من دون التقيد بنوعية محددة من الرقص، أو التزام صارم بتقاليد بعينها.
هيمنة زنوبيا
لجأ مصمم الديكور والملابس أنيس إسماعيل إلى استخدام تمثال للملكة زنوبيا في عمق المسرح وبحجم كبير لتكون زنوبيا مهيمنة على المشهد منذ البداية وحتى النهاية. وأحاط جوانب الخشبة الثلاثة بالستائر، وعلى اليمين ما يعبر عن قطاع من غرفة الفتاة العصرية، وراعى في الملابس تعبيرها عن الفترة التي تدور فيها الأحداث، وكذلك تعبيرها عن طبيعة الشخصيات وجنسياتها.
اعتمد العرض منذ البداية وحتى النهاية على المشاهد المتوازية التي تربط حركات فتاة العصر وانفعالاتها بما يحدث في مشاهد زنوبيا، مما تطلب تركيزاً شديداً من المشاهد، يعينه على تفسير ما يحدث أمامه.
في هذا العرض الذي جاء ممتعاً على مستوى الصورة والفكرة، تمكنت المخرجة والمصممة كريمة بدير من المزاوجة بين الكلمة والحركة، لتخرج، ولو بشكل نسبي، عن النمط المتبع في عروضها، وعروض مسرح الرقص الحديث عموماً. ربما لجأت إلى ذلك لأمرين، أولهما طبيعة الموضوع، الذي يربط بين التاريخي والمعاصر، بين امرأة هنا والآن، وأخرى كانت هناك. والآخر رغبة منها في إكساب مسرح الرقص الحديث أرضية جديدة تتسع فيها رقعة المشاهدة، ولا يكون منغلقاً على فئة محددة.