للنساء عوالمهن الخفية التي تزخر بالحب والعطاء والأمل ولكنهن أيضا يرزحن تحت ثقل الألم والمعاناة التي تفرضها الأنظمة الاجتماعية والدينية وغيرها. ورغم أن المرأة هي الكائن الأكثر تعرضا للمحاصرة والنظرات النمطية إلا أن لكل امرأة حكايتها وطريقتها في إشاعة الحب.
تحاول لطيفة لبصير في كتابها “لكل امرأة كتاب” الدخول في عوالم المرأة الغامضة، لتستجلي ما أمكن مما التبس على الجنس الآخر وهو الرجال من عميق الأسرار، باعتبار المرأة كائنا صامتا صابرا قابضا على الجمر متحملا المعاناة مضحيا للزوج والأبناء، كل ذلك من أجل إسعاد من حولها، رغم ما يصيبها من قهر واستلاب وظلم مديد عبر التاريخ، إنها ذلك الكائن المغلوب على أمره، والكائن المعشوق من قبل الرجل، والكائن الذي يتعرض لكل أنواع الهدر وتغييب الحقوق، وهي الكائن الذي كتبت عنه القصائد العصماء وجن به عمالقة الشعراء والأدباء منذ غابر الأزمان.
تبدي المؤلفة رؤيتها حول لوحة موناليزا الغامضة فتقول “حين أتامل الموناليزا وأنا سعيدة وهذا ما انتهيت إليه، أراها تحدق فيّ وكأنها تقول لي إني أعرفك هكذا وأنت تبتسمين وتشرقين، ولكنني حين أطل عليها بكل رغوات الحزن التي تصيبني، أراها تشبهني وأكتشف أنّ الرائي هو أيضا ينقل قلقه إلى اللوحة فتصاب هي أيضا بالحزن، ولعل لعنة مثل هذه هي خلودها وانتقالها من جيل إلى جيل وتغيير أنماطها وتعدد أشكالها، فاللوحة الأصل تظل شامخة مختلفة، بينما العصور ألبستها كل ألوان التحول”.
معاناة النساء
تفاعل جميل يجري بين المؤلفة ولوحة الموناليزا وتبادل المشاعر وإن كانت اللوحة قطعة جماد لكنها زاخرة بالتعابير الحزينة وربما السعيدة في آن، فهي لوحة شبه ناطقة توحي بكل مظاهر الحياة والحيوية والدفق الإنساني الجميل إلى درجة تفاعل المؤلفة معها وإسباغ المشاعر عليها وكأنها كائن حي ينطق ويمشي، يفرح ويتألم.
إن الكثير من الرغبات البشرية لا تتحقق وهذا ربما يعود إلى حكمة مفادها أن هذه الميول لا تنجح في مجال ما، ولكنها تصب في مجال آخر فينتقل كل الزخم الاندفاعي الهائل إلى مجال أو حقل جديد فيكون الخلق والإبداع.
هذا ما تعنيه المؤلفة “ومن هنا، فإن الكثير من الرغبات قد تتوارى إلى الخلف لأنها لا ينبغي أن تشتعل حتى لا تحرق الأيادي التي تعانقها، وتكتفي بأن تعانق الرغبة في شيء آخر، توجه إليه لوعتها وحرقتها وضجيجها. فيأتي الإبداع والعمل والخلق ويتم توجيه الميولات الكثيرة إلى أماكن لم تكن موعودة من قبل”. وهي تصيب هنا فيما أعتقد إذ إنّ العشق مثلا يخيب ولا تستجيب المحبوبة لرغبات الحبيب في استمرار الاشتعال العشقي أو أن تقف بعض الأسباب كعوائق أمام وصال مستمر بين الحبيبين، فيرتحل اللهيب العشقي إلى متنفس آخر، فن، شعر، أدب … إلخ.
تقول المؤلفة “لماذا صار علينا في هذا الزمن أن يفتي الفقهاء فينا نحن النساء فقط؟ هل لأنهم يمتلكون الوصاية علينا؟ ولماذا لا يفتون في الرجال بنفس الصورة ونفس التشدد؟ في الآونة الأخيرة أصبحت المرأة ذلك العالم الذي لا يمتلك أي صورة حقيقية، فهي ترفض وتغضب وتخضع وتصمت وتتكلم عبر الأوراق والشاشات عن عالمها الغريب، وتبدو كما لو أنها تتحدث عن قانون قديم يسن دهاليزه في كل الأوقات، ويقول ما يريد، ولذا أصبح الفقهاء يتفننون في تفسير عالمها كما يرون هم، لا كما ترى هي”.
إنها صرخة ألم نسائي عميق مديد، تشعر به النساء وتجد هنا منعكسا أدبيا له عبر ما تكتبه مؤلفتنا في هذا الكتاب المنصف للمرأة والناقد لنزوات الرجل غير المعقلنة وغير العادلة وغير الموضوعية تجاه المرأة، المرأة الزوجة والأم والأخت والبنت والخالة والعمة.. إلخ.
وهاهي المؤلفة تكمل حلقة الألم النسائي العميق إذ تسرد معاناة المرأة وجهدها وتعبها المجهول في المنازل والمعامل والحقول، تقول “أفكر في تعب النساء اللواتي يحترقن في الحقول بأشعة شمس عمودية، اللواتي يلدن على أعتاب المنازل الباردة، يعملن بلا انقطاع في معامل مغلقة وضيقة، اللواتي وهبن حيواتهن لأطفالهن في نوع من نكران الذات نادر وعظيم… اللواتي لم يسألن عن رغبة أو عشق، أو حنان هو من حقهن، اللواتي لم ينتجن إلا في صمت، اللواتي مسحن دموعهن وابتسمن ابتسامات عريضة للآخرين، أفكر فيهن وهن يشعلن نيرانا صغيرة من أجل مساء حان وحساء دافئ”.
طاقة الحب
تتحدث المؤلفة عن مجموعة فيسبوك نسائية فتصف دخولها إلى المجموعة وكأنها تدخل “غرفا خاصة بصور تعرض حياة شخصية مضت وتركت الأثر، وكأنها محطة من محطات النساء ورؤيتهن في العصر الحديث، إذ كان المرض والخيانة والفشل والنجاح يتحدثن في السر، تحت غطاء السمعة و’الحشومة’… نعم، لم نكن نجد النساء يتحدثن بالعلن في مواقع التواصل الاجتماع بهذا القدر من الصراحة، والآن أصبح العلن جزءا من الحياة وكأنها سير صغرى لحيوات طويلة، ومكابدة مع زمن المرأة وأوجاعها”.
تشبّه المؤلفة هذه المجموعة النسائية الفيسبوكية بعيادة التحليل النفسي، إذ إن الكاتبة في المجموعة التي تسرد على القراء القصة هي تفضفض عن نفسها كما أنها تريد أن تترك أثرا في المتلقين، منهن من يكتبن بالعربية ومنهن من يكتبن بالفرنسية وعبارات بعضهن ركيكة، كما أنّ المؤلفة تبين أننا قد نظل على ظمأ في بعض الأحيان لمتابعة بقية الحكاية.
لطيفة لبصير تتفق مع الرأي الغالب الذي يقول إن الحب يبقى لغزا محيرا ومن الصعب التعرف على مغازيه
وتكتب المؤلفة عن الحب فترى أنّ التأمل في الأعمال العالمية يعطينا إشارة مفادها أنّ العديد من العشاق انتظروا زمنا طويلا كي يلتقوا بمن يحبون، وهذا ما نجده في رواية “الحب في زمن الكوليرا”، لغابرييل غارسيا ماركيز، إذ انتظر البطل سبعين عاما كي يعيد اللقاء بمحبوبته في مرحلة حاسمة من العمر، وهو يبدو نشازا إذا قيس الأمر بالوقت الحالي، إذ إنّ لحظات الحب أصبحت تنعاش الآن بسرعة البرق، وكأن الحب لا يصدق نفسه إلا حين يكون عابرا منذورا للذاكرة، موضوعا في أكياس قديمة نفتحها بين اللحظة والأخرى ونمسح عنها ما تراكم عليها من غبار. ص 137.
وترى لبصير أن الحب عموما يبدو تعيسا فأغلبهم يريد أن يعيشه إلا أنه يخشاه لأنه كذلك، وينظر إليه الكثير بشعور كبير من الفزع بدلا من الفرح، فالكل يخشى زوال الفرح، وقديما قال هوراس “اقطف يومك”، ذلك لأن اليوم الجميل يزول، ويتلاشى وقد لا يعقبه يوم آخر أجمل.
وتتفق المؤلفة مع الرأي الغالب الذي يقول إنّ الحب يبقى لغزا محيرا، ومن الصعب التعرف على مغازيه وأسراره وكشف الملتبس واستجلاء الغامض فيه، إلا أنّ الحب يحدث سواء حين يعبر أو حين يستمر، يحدث وهو أعذب وأمتع ما يمكن أن يحدث، والذي لا يضع قدميه في لهيبه، لا يمكن أن يدرك ما يحدث فعلاّ! ص 137.
وتجنح المؤلفة إلى البهجة والسرور والفرح حتى عند الموت إذ تكتب عن جنازة الفنانة اللبنانية المعروفة الراحلة صباح ولبوس هذه الجنازة الفرح والسعادة والرقص والموسيقى بحيث إنّ المشاهد العربي لم يكن قد اعتاد مثل هذا النوع من الأجواء والطقوس غير المعتادة، تعلق على ذلك بالقول “نحن في حاجة إلى صباح كي تمنحنا التوازن أمام ما يحدث من موت، حين أفكر في صباح الفنانة، لم يكن المهم هو الجمال الظاهر، لأن هذا الجمال يخبو مع السنين، ولكن الحقيقي في هذه الشخصية هي القدرة على الحب والعطاء والجمال طيلة هذا العمر، وهذا الخوف ربما يدفع بالكثيرات والكثيرين أيضا إلى الانزواء في الظل وانتظار الموت الرحيم الذي يبدد قسوة أيادي القدر”.