توفيرا لوقت القارئ/ القارئة، أتمنّى العودة إلى منشورين سابقين كتبتهما عن انعدام الحس بالتضامن بين المقهورين.
تنطوي الجماعات المقهورة على ضيمها فلاترى ضيم الآخرين، بل قد تحاول التقليل من شأنه لكي لا تسرق جماعة أخرى الأضواء المسلّطة على ما عانت وتعاني من ضيم. هذا ما قاله فلاسفة وروائيون عظام وهذا ما أستخلصت من قراءات موجعة للتاريخ البشري المعاصر لعل آخرها صدمتي حين قرأت مقالا مطؤّلا عن استماتة دولة إسرائيل في منع الغرب من تسمية ماجرى بحق الأرمن على يد العثمانيين “إبادة جماعية” وفي تهميشها لضحايا الهولوكوست من غير اليهود: شعب الروما (الغجر، كما جرت التسمية)، الشيوعيين والمثليين.
للساسة دور محوري في هذا التلاعب بإحساس الجماعات العرقية، المذهبية، الدينية، الجندرية الحقيقي أو المتخيّل بالضيم. دروس التاريخ المؤلمة تشير إلى غلبة لساسة نجحوا في تحويل الشعور بالضبم إلى مواجهة إجرامية مع جماعات عرقية، مذهبية، دينية، جندرية مقابلة، وندرة لساسة نجحوا في توجيه أنظار المقهورين إلى أن العدو ليس الكل المقابل، بل أطماع قادة هذه الكتلة المقابلة. وقد أكون متحيّزا ضد الساسة كلهم إن قلت أن قراءاتي التي تظل محدودة تشير إلى أن الفروق بين هذا القائد الناجح أو ذاك لا تعود إلى الفوارق في المثل العليا (أو الدنيا) التي اعتنقوا، بل إلى حسابهم الصحيح (أو الخاطئ) لتوازن القوى بين الجماعة التي يسعون لقيادنها وبين الجماعة/ الجماعات التي تواجههم.
في الحالة النادرة الأخيرة، لم يحرّض غاندي ضد الإنكليز كشعب، ولم يحرض نلسن مانديلا على قتل البيض أو اضطهادهم في جنوب أفريقيا. في الحالة الأولى، لا يحتاج قارئ هذا المنشور إلى خبرة تاريخية عميقة. تكفي قراءة الشعار الذي يظهر وراء اليمني عبد الملك الحوثي كلما أطلق واحدة من خطبه العصماء: الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود ( يفخر العرب بمملكة مأرب اليمنية لكنهم يسقطون عن التاريخ كونها مملكة يهودية وحكّامها مثل بطلهم الإسطوري سيف بن ذي يزن كانوا يهودا
فلنأخذ استراحة بسيطة من بشاعة التاريخ الجمعي الذي هو ليس صراع أقوام فقط، ولا يقرّره الساسة لوحدهم. ولنر إلى الأفراد، أو بعضهم.
أواخر التسعينات كنت في معهد الشرق الأوسط في واشنطن حين التقيت بعد قطيعة عقدين صديقي الفلسطيني د. صالح إبن المناضل عبد الجواد صالح، وكان يتهيّأ لإلقاء محاضرة أظنها كانت عن الفلسطينين داخل إسرائيل. تبادلنا الحديث عن الهموم، وهل ثمة غيرها؟ حدّثني عن تسارع زرع المستوطنات اليهودية بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين وصعود اليمين. ولأنه كان يعرف موقفي من القضية الفلسطينية، قلت له: هل سمعت عن عملية الأنفال ضد كردستان بين عامي 1987- 1988؟ تم توثيق محو 4000 قرية كردية على طول الحدود مع إيران وأعلنها النظام مناطق عسكرية مغلقة؟
ضرب صالح جبهته بباطن يده وقال: كنت أنوي التحدّث عن محو 400 قرية فلسطينية على يد الإسرائيليين عام 1948.
قلت له: ولمّ لا؟ الجريمة تبقى جريمة. هدفي ليس تبرأة إسرائيل، بل أن يشعر الفلسطينيون والعالم بجرائم بشعة تم ارتكاب بعضها باسم الدفاع عن قضيتهم.
وهكذا، طوال عقود تربّت أجيال من العرب على أن مسعى أي قوم يعيش في المنطقة الممتدة من العراق إلى جبال الأطلس للحصول على حقوقهم هو مؤامرة شبيهة بإنشاء إسرائيل وسط بيئة عربية هدفها تمزيق هذا الجسم العربي المتآخي (ولم يكن متآخيا قط). مجئ مئات ألوف اليهود الأوربيين لللإستيطان في فلسطين تمت مساواته بمطالب ملايين الأمازيغ الذين يشكلون غالبية سكان المغرب والجزائر، ومطالب أكراد العراق وسوريا بحق تقرير المصير ومطالب النوبيين والآشوريين والكلدان بحقوق ثقافية وسياسية وهم كلهم أبناء البلاد الأصليين جاءهم كثير من العرب غزاة وأجبروهم على التخلي عن دياناتهم وأعرافهم وتقاليدهم.
واستراحة قصيرة أخرى من هذا التاريخ الموجع: في نهاية 1991، جلت هذا الجسد الموجوع كردستان من دهوك غربا إلى المناطق “المحظورة” في قرداغ شرقا. كلما تحدثت مع عامل مقهى، سائق سيارة أجرة، عامل في فندق، مزارع أو مقتلع من أرضه موجوع الضمير كشخص عربي، عن الجرائم التي ارتكبت بحقه، كنت أسمع جوابا واحدا: أنتم أيضا تحمّلتم الكثير يا كاكا (كاكا: أخ).
واستراحة كبرى عند قيامة المسيح عام 1991 أيضا. ظهر تيمور من بين الأموات حقا. حين تفككت أجهزة سلطة البعث إثر حرب تحرير الكويت والإنتفاضة التي اجتاحت معظم أجزاء العراق، جاءت عائلة رعاة من منطقة السماوة في أقصى الجنوب إلى كردستان مصطحبة صبيّا كرديا أخفته عندها لسنوات.
روى تيمور القائم من الموت كيف تم نقلهم في شاحنات إلى صحراء السماوة. روى كيف أنزلوهم. روى كيف أعطوهم مجارف لكي يحفروا قبورهم بأيديهم. روى كيف طلبوا منهم النزول الى الحفر. روى كيف شاهد جنودا يبكون وضباطا وراءهم يأمرونهم بإطلاق النار على من داخل الحفر. روى كيف تكوّم تحت جثة والدته. وروى كيف زحف بعد أن غادر الجنود لتعثر عليه عائلة الرعاة النبيلة هذه وتخفيه عندها.
وفي عام 1991 أيضا وأيضا، عرفت اسم المغني الكردي الإسطوري شفان. لا تحتاج إلى معرفة اللغة الكردية لكي تفهم معنى أغنيته “هوار… هوار”. كان يبكي هيروشيما، كردستان، فلسطين وكل الضحايا.
ولنعد قليلا إلى النصف الثاني من عام 1990. أجهش رئيس تحرير الصحيفة الكويتية حين استضفناه في دمشق: ما الذي فعلناه بأنفسنا وبكم؟ كانوا يأخذوننا كقطيع لنعود ونكتب عن أكاذيب يحوكها الأعداء ضد العراق. كنا نرى الجرائم ونسكت حتى جاءنا الذئب.
قفزة زمنية كبرى إلى ألأمام (سببها بكل صراحة: الكتابة تؤلمني. أريد أن أختصر)
2017: الشعب الكردي في العراق يخرج في عيد لم يشهده منذ عقود. نجح في إجراء استفتاء على الإستقلال وحاز المؤيدون له على أغلبية ساحقة. (كتبت سلسلة مقالات عن الأمر ولن أعود للنقاش حول الأمر هنا).
المنطق يقول: الكرد والفلسطينيون هما الشعبان الأكبر في المنطقة اللذان يطالبان بحقهما في تقرير المصير. المنطق يقول أن الفلسطينيين هم الشعب الذي كان عليه أن يبدي أكبر قدر من التعاطف مع الكرد وأن يكون الكرد الأكثر تعاطفا مع الفلسطينيين.
وماذا لو صوّرك خصمك توأما للعدو؟ وماذا لو جيّش خصمك الجمهور باعتبارك العدو أو تابعا له؟ ينطبق هذا على نصر الله وبشار الأسد.
عند ذاك سترى أعلاما إسرائيلية يتم التلويح بها من السيارات المحتفية في قلب أربيل.