القصة طويلة شوي، لكنها. تُقرأ…
هيلا
فاجأني صوت هيلا القروي الرتيب، في هذا الصباح الغائم. انسل عبر المسافات. فبكيت .
كأنني كنت أنتظر هذا الصوت المتهدج، يأتي من ماضي، ابتعد في الزمن، لأعي بعمق، كم ابتعدت أنا أيضاً في الزمن، الذي انقسم إلى ما قبل، وما بعد.
لأبكي…
كان صوت الزمن يعلو في قلبي محذراً. كنت أبكي في هذا الصباح. الشام وبيتي وأحبائي.
سنوات طويلة مضت، منذ رأيت هيلا آخر مرة، تحديداً منذ غادرت دمشق. حاولت معرفة أخبارها، وفي كل مرة كنت أفشل، كأن الأرض انشقت وابتلعتها.
هيلا من قرى الجولان، نزحت مع أسرتها إلى دمشق،مع تسعة أولاد، وزوج يبحث عن عمل، سكنوا في أحد البيوت الطينية المتراكمة حول المدينة، لا شيء حوله إلا الجبال الجرداء، وعواء ذئاب الليل، نهارات طويلة، وليالي سقيمة، وثرثرات الجيران. وفقر بلا حدود.
حملتْ أعباء بيتي، والكثير من البيوت.
تبدأ نهارها مبكرة، تأتي حيية، متأنية، موردة الخدين، ذبول كسير يرف على بياض عينيها، يفضح سر ليلها المؤرق الطويل، مع زوج يفرغ في جسدها الشاب، كل ما حمّلته إياه الحياة من تهاويم وخيبات وقهر. أدمن الشراب، وأدمن ضربها، يغفو الليل وهو لا يغفو.
مع أكواب الشاي الساخن، وصحون المكدوس، والزيت والزعتر، والجبن البلدي، كان يجمعنا فطور الصباح، تحدثني عن حياتها، حياة غائمة، شقاء ممتد، تسقط الكلمات من فمها، كأنها تتحدث عن أخرى. خارج حكايتها. تضحك أحياناً، فتفضح توقها العارم الى الحياة، لكن سرعان ما تغطي الدموع عينيها. وتقول وهي تمسحها عن وجهها:
“الله يعطيني خيرها الضحك “.
سألتها مرة مازحة:
“كيف تزوجت ياهيلا؟”.
“كيف تزوجت، متل كل الناس اللي بيتزوجون”.
تجيبني ببساطة بلهجتها الجولانية المحببة.
“يا هيلا، لكل إنسان قصة حين يتزوج، ما يصير. كل واحد يتزوج بطريقة مختلفة، هل أحببته مثلا؟”.
يحمر وجهها، تداري ضحكة ساخرة:
“شو تكولين؟ نحن ما عنا هادا يلي تكولون عنو حب”.
“يعني انت ما أحببت في حياتك”.
“شو يعني أحب، هادا شي عيب، كان أبي هراني من الضرب”.
“طيب احكيلي كيف تزوجت؟”.
يتوه بصرها، ترتسم المرارة على وجهها، تبحث في هذا اليوم البعيد، عن جواب لسؤالي العجيب، لا تجد أثرا لذاك اليوم الذي تزوجت فيه.
“رباني من أول الطريق”.
“ضربك؟” قلت مستنكرة.
“ما بعرف، يمكن، نسيت” تقولها بخجل وقد اندفع الدم الى وجهها الشاحب فجأة فلونه بحمرة خفيفة
ثم بتلكؤ وتواضع توجز مسار حياتها بكلمتين :
“هيك حياتنا”.
المنظر اهتز في عيني، ترجح بين القاتم والقاتم جدا، استثارني كلامها،أجج غضباً قديماً، لم أستطع أن أخفيه، أردت أن أفسر لها حجم ما تقوله، كم هي عالقة، زوجها أيضا عالق، لكني أحجمت، ما الفائدة من ذلك، ما دامت هي لا تأبه، استسلمت الى قدرها، كأنها جاءت إلى هذه الدنيا لتعيش هذا النوع المجحف من الحياة. ربما كان هذا الأفضل، لتمنع نفسها من السقوط. اعتقدتْ أن الحياة هكذا، ليست وحدها، الجميع عالقون، أمها وأختها وابنة خالتها وابنة عمتها، فلِمَ الاستغراب؟ صنعت معادلتها بذكائها الفطري، وارتاحت.
تشرح لي هيلا، كيف هو العالم بالنسبة إليها، ينقسم إلى “نحن” “وأنتم”.
نحن، -تعني هم- الناس التي تعيش في القاع، في الشقاء والتعاسة، “هادا مقدر ومكتوب”. هكذا فهمته. وأنتم -أي نحن- العالم النظيف الذي يعيش هانئا ومرتاحا، بلا هموم، “مُقدَّر ومكتوب أيضا””. لا اتصال بين هذين العالمين، السعيد والتعيس، الفصل بينهما، يشكل المعادلة التي قامت عليها حياة هؤلاء الناس ،و كانت تحت رحمة القدر.
لم تكن نظريتها قابلة للتفسير، حاولت اختراقها، بذر بذور الشك في نظريتها الساذجة، أن أعلمها كيف تحب ذاتها، وتحترم جسدها، وأن الحياة لا يمكن ان تعاش بهذه الطريقة، أن تترك هذا الرجل، وهذا الوحل، وتنجو بنفسها وأولادها، فجابهتني بشقائها. كان قد ولد ورضع معها.
“ووين أروح أنا، وشو سوي بحالي، أخدم عند نسوان أخوتي؟”.
“ولكنك تعملين، وهو من يأكل من تعبك ويعيش عالة عليك”.
” هو رجال، وهوي زوجي، أبو أولادي، الناس شو يكولون عني”.
” لكنه يضربك، ولا يعمل، وليس رجلاً، ما المهم في ما يقول الناس؟”.
“كيف اتركوا، كل الأزواج يضربون نسوانهم، أبوي كان يضرب أمي، واخي كمان، وابني المتعلم ممكن يسوي هيك”.
ومع كل ذلك، العجيب في الأمر، كان حدث الزواج، هو الحدث الأكثر زخما وحضورا في حياتهم الرتيبة، يتأهبون له كقدر ممسوس بفعل الغموض، الغريب أنهم يدركون تماما، او تدرك الفتاة، بشكل مبهم، أنها تنهي طفولتها، أو أنها لم تكن طفلة في يوم من الأيام. حين تقاد كنعجة لتسلم الى رجل غريب. في حفل الشقاء الذي يبدأ، ويلتهم حياتها كلها. لكن لامفر من الأمر، هو قدر، الشقاء قدر، وما عليها إلا أن تعي هذه المفارقة، وماعداه ليس مهما، المهم هو أن تصبح عروسا، وتنتهي هنا الحكاية. وعندها تنضم الى موكب النساء، اللواتي يتهامسنّ ويتلامزنّ، عما يحدث في تلك الليلة الخارقة الغموض،ليلة الزفاف. وهنا يتوقف الحلم عن الجريان.
” لكل شي وقتو، شو نسوي، بدنا نفرح”
تحدثني عن أفراحهم وتعني بها دائما أعراسهم ، العرس فقط يعني الفرح، ليس لديهم مواسم زرع وحصاد، وشتاء وصيف. هم نزحوا عن قراهم وأرضهم ومواسمهم ، ليعيشوا ويتجذروا في هذا القفر كيفما اتفق،على آمل هزيل يخبو كل يوم، لعودة محتملة. حتى فعل الولادة ليس فرحا، هو ايذان بشقاء أخر قادم على الطريق .
وعندما تحكي هيلا عن هذا الحدث، يغدو صوتها فجأة غير رتيبا، تنبض فيه أشواق مبهمة ورؤى ملتبسة، لفرح عابر، كأن الفرح زائر عزيز، يقيم يوما ويرحل،ليس المطلوب منه أن يبقى، هذه معجزة ولا معجزات في حياتهم.
الجميع مدعو، الجميع يتناسى أحزانه، كأن العمريتكوم في هذا اليوم المميز، يعيشونه ويمنحوه ذاتهم بالكامل.
ربابة تشدو، ونقرات الطبل تصدح، زغاريد تهزج، دبيكة في الساحة، تتشابك الأيدي،والكتف على الكتف يميل، أصوات النساء في الداخل تعلو، متبارية في المزاح والرقص والمجون، تهزج بتلك الأغاني الخاصة،المعجونة بالمعاني الملغزة،والإيحاءات المثيرة، فيبلغ حماس الدبيكة أوجهه، وتكاد ضربات أقدامهم تشق الأرض .
غابت هيلا فجأة، ولم تأت.
في الأسبوع التالي، صحوت على صوت نقرتها المعهودة على الباب. شهقت حين رأيتها، وجهها ملطخ بكدمات زرقاء، يدها مشدودة الى كتفها بضماد أبيض.
“ادخلي،ادخلي ، شو عاملة حادث؟”.
انهمرت الدموع من عينيها ولم تجب.
“شو صار احكي؟”.
لم ترد إلا بمزيد من الدموع. تساءلت بجزع :
“زوجك..؟”.
اومأت باستسلام، كفكفت دموعها، وشهقت متوجعة.
اللافت في حكاية هيلا، مساحة الاستسلام المهيمنة على روحها، هذا القدر من التعاسة. لم تتبرأ منه، ولم تنكر فعلة زوجها، قبلته كواقع عادي.
إذا لماذا تتألم هيلا سألت نفسي ؟
هل من الوجع كفعل مؤذي، أم من بقية باقية لكرامة جريحة، تأبى أن تموت.
“احكي الآن، لماذا فعل بك هذا؟”.
احمر وجهها، وغصت بريقها، تظاهرت انها لم تسمع.
“احكي، بدّي اعرف، ليش عمل فيك هيك؟”.
“بدو ينام معي”.
قالتها، وتشاغلت بنزع منديلها الأسود عن شعرها، تحاول اخفاء خجلها.
“كملي..”.
“كان سكران، وبدو ينام معي، بيتنا غرفتين، الصبيان ينامون في غرفة والبنات في غرفة، وقت يريدني، يطردهم من الغرفة، ها المرة كان الباب الوحيد، يلي يفصل بين الغرفتين مكسور، انكسر من يومين، وانا كنت هلكانه من التعب، اشتغلت كل النهار، قلتلو أنا تعبانة، والصبيان والبنات يسمعوننا، تمنعت، وقلتلو اتركني، جن جنونه، انهال علي ضرباً، شد شعري، ضرب رأسي بالحائط، رماني على الأرض، قلي يا فاجرة، قلي أني عّم أبيع حالي للرجال، عّم مضي نهاري معهم، بالبيوت يلي عّم اشتغل فيها”.
بالكاد خرج صوتي مرتجفاً:
“وأولادك. سمعوا كل شي؟”.
” سمعوا. شو يسوّون يعني، شو يطلع بيدهم يسوّن المساكين، كانوا يبكون”.
“وابنك الكبير.. ؟”.
“ترك البيت وفلّ، ما بعرف وين راح، ولهلأ مارجع.
غافلني مشهد درامي، تشكل فوراً أمام عينيّ، كومة الأولاد التسعة المذعورة في الغرفة الصغيرة، صرخات تعبث بسكون الليل، شتائم بذيئة تخرش سمعه، عيون ملجومة بالخوف، دموع حائرة بين الخجل والانكسار. والابن الشاب هام على وجهه.
دموعي طفرت غصبا عني.
تقت الى فعل شيء، أبعد فيه هذا المشهد البشع عن عيوني، أمنع الشتائم من ان تخرج من فمي، ولا أدري من ستصيب، هيلا أم زوجها، أم هذا القدر المرعب..
المرة الوحيدة التي عرفت أن هيلا ثارت على زوجها، كان حين أجبر ابنه المتفوق في دراسته على ترك المدرسة، ليعمل أجيراً في مخبز، ثارت وبكت وهددت، فعلت المستحيل، أقامت الدنيا ولم تقعدها.
لم تفلح!
رضخت، ورضخ الابن، عمل أجيراً، يسرق الوقت ويسابق الزمن، ليتابع دراسته في الجامعة. وكان تعب الابن كما الأم، يذهب ثمنا لخمر النسيان، يسكب في روح إنسان، أصابه العطب.
اليوم! وفي هذا الصباح، وبعد السنوات الطويلة من الغياب، أخبرتني عبر الهاتف، أنها استلمت من الجامعة، شهادة تخرج ابنها من كلية الحقوق. كان من الأوائل.
لكن هيلا الجريحة كطير،أصابه سهم اخترق أحشائه، فسقط متخبطا، توقا للخلاص.
قالت ” بس هو راح،راح طيري، أخدو البحر معو، وراح”.
غرق الإبن الشاب، مع زوجة أخيه الحامل، وأطفالها الأربعة، وخمسة وأربعون آخرين في أحد المراكب المطاطية، المنتشرة في عرض البحار، تحمل الهائمين على وجوههم، بحثا عن سقف ووطن.
اقترف الموت فعلته، في عرض البحر، وأحبط سعي الابن نحو مستقبل مجهول، هربا من مصير مفجع، لم يكن له فيه خيار، إما أن يكون قاتلاً، أو أن يُقدم قربانا رخيصاً، ليعيش الآخرون.
هذا ما قالته لي هيلا الجريحة في هذا الصباح.
كان صوت هيلا المذبوح مازال يتلوى على الطرف الآخر، حين امتد أمام ناظري فضاء واسع يعوم فيه بحر، تحشرجت أنفاس أمواجه، مع آخر زفرات أولئك الذين كانوا يحلمون حلما، ربما كان جميلا
لم يكن حلما، كان دخانا من هباء .
#أنا التي لم أعد هناك/. دار يافا
كل التفاعلات:

أنت، وخليل حمسورك، ومحمود أحمد باكير و٩١ شخصًا آخر