يا شام إن جراحي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا...
دخلت إلى سوق الحميدية بدمشق القديمة وصوت الشاعر نزار قباني يطاردني أينما ذهبت. رحت أمشي في رحلة محفوفة بالأمل والأسئلة. كل شيء تغير في سورية بعد الخراب والدمار والموت الرخيص، وخيمت آثار الحرب على البشر والحجر، ومع ذلك ما زال هذا السوق الأثري العريق محافظًا على ازدحامه بالزوار وضجيج الحياة الشاحبة، مفتقدًا كثيرًا من محبيه ودفء تفاصيله.
قبل الحرب، كان القطاع التجاري نشطًا ومتنوعًا في سورية، ويسهم بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي، ولكن ومع اشتداد الحرب، وتدهور الوضع الأمني والاقتصادي، تأثرت التجارة كثيرًا، كغيرها من القطاعات، مما أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، وارتفاع معدلات البطالة والفقر.
ومع ذلك، ما زال سوق الحميدية محافظًا على أغلب محاله وبضائعه وازدحامه الشهير، ولكنه في الوقت نفسه افتقد قدرة الزوار المحليين على التسوّق والشراء والبهجة، بسبب ارتفاع الأسعار الكبير، وقدراتهم المتواضعة.
يبدأ السوق، درة الأسواق وأجملها، كما سماه المؤرخون، من شارع النصر، أحد أشهر شوارع دمشق الحديثة، وينتهي أمام الجامع الأموي، بطول ستمئة متر، وعرض خمسة عشر مترًا، ممتدًا بين بابي: النصر في الغرب، والبريد في الشرق، سالكًا محور الطريق الروماني المؤدي إلى معبد جوبيتر، وبقاياه المرمرية الصامدة منذ زمن الإغريق، على شكل بوابة أثرية وأعمدة رخامية باسقة تنتهي بتيجان مزخرفة من الرخام.
يسير الناس فيه هذه الأيام بعيون تائهة، وأكثرهم لا يقصد بضاعة محددة، أو منتجات بعينها، فالأسعار ارتفعت، ولم تعد رحيمة بهم كما كانت، ولم تعد البضائع في متناول اليد.
تصطف المحال التجارية التي تضج بالأصالة الشرقية المتوارثة على جانبي السوق، يجلس أصحابها على كراسيهم القديمة في داخلها وعيونهم شاخصة إلى الخارج تبحث عن متسوق جدي وقادر، وقد صمتوا عن نداءاتهم الموسيقية الحنونة: اتفضلي يا ست، اتفضلي يا صبية، عنا أحلى البضائع وأرخصها، اتفضلي يا أمي… بلهجتهم الدمشقية العذبة.
تغيرت بعض تفاصيل السوق وتقاليده اليومية، ذلك السوق الشعبي الذي كان قبل الحرب ملاذًا للفقراء وذوي الدخل المحدود. وبات عدد كبير من زواره ومحبيه يأتون الآن للنزهة المجانية والفرجة والبحث عن حلم هنا وذكرى هناك، كما قال صاحب محل الصاغة وصاحب محل المطرزات.
يقع الجزء الأول من السوق بجوار قلعة دمشق، وفيه مساجد ومبانٍ تاريخية عريقة، وتصطف على جانبيه المحلات التجارية والصناعية من كل صنف ولون: أزياء وأقمشة مختلفة ـ مطرزات وأدوات الزينة والأكلات والمشروبات الشعبية ـ أعمال يدوية وسجاد شرقي ثمين ومصنوعات تراثية من المصدفات والأرابيسك والصناعات النحاسية، إضافة إلى السيوف الدمشقية، والدروع المطعمة بالذهب والفضة.
لكن، رغم هذا التنوع والعراقة، تبدو حركة البيع والشراء ضعيفة، كما قال أبو أحمد، أحد تجار الشرقيات، ويعود ذلك في رأيه إلى ارتفاع أسعارها التي تجاوزت قدرات غالبية المتسوقين المحليين المادية، فمصبات القهوة العربية الفضية والذهبية مثلًا تجاوزت أسعارها النصف مليون ليرة سورية، وأكثر، وكذلك علب الموزاييك والصدف والمصاحف التي وصلت إلى حدود مليون ليرة سورية.
محلات ألبسة العرائس ومستلزمات حفل الزفاف هي أيضًا تشهد حركة شبه معدومة، فالأغلبية لا تستطيع الشراء، وإنما تلجأ إلى استئجار فستان الزفاف ومستلزماته ليوم واحد فقط، بدلًا من شرائه، مع العلم أن ثمن الاستئجار تجاوز عدة ملايين ليرة سورية، وبات عبئًا على العروسين، كما قالت إيمان، التي تحسرت على الأيام التي كان فيها فستان العروس يبقى معها طوال حياتها. وقالت وهي متعبة من البحث وتهم للخروج من المتجر: هذا لا يجوز وغير معقول، الأسعار خيالية وكاوية، وتدعو إلى البكاء.
بينما قال أبو عدنان، صاحب المتجر، إن شراء فساتين الزفاف أصبح شبه معدوم مع الارتفاع المتواصل والكبير لسعره.
يتفرع عن السوق أكثر من عشرين سوقًا تاريخيًا متخصصًا، ويعرف كل سوق منها باسم يعود للمهنة التي تخصص بها: سوق الصاغة ـ السروجية ـ القيشاني والمناخلية ـ العصرونية، والبزورية، التي تنبعث منها رائحة التوابل والبهارات الدمشقية وملامح التاريخ والتراث.
وأنت تسير في السوق يستوقفك بائع واحد للعرقسوس لا يستطيع أي زائر تجنب كرمه يرتدي قفطانًا دمشقيًا مزركشًا بخيوط ملونة ويخاطبك بلغة الكؤوس والأطباق النحاسية لجذب الانتباه إليك قائلًا إنه أصبح هو بائع العرقسوس الوحيد في السوق أغلب الأوقات، بعد أن كان باعة كثر يجوبون السوق ذهابًا وإيابًا عندما كانت الأسعار مناسبة والخير وفير.
يستوقفك أيضًا معلم معروف ومشهور زاره ملوك ورؤساء وفنانون كبار، وهو بوظة بكداش، أشهر المتاجر لبيع البوظة في دمشق، وفي العالم العربي، والذي تأسس عام 1895، واشتهر بصناعة البوظة العربية المغطاة بالفستق الحلبي، وهو أيضًا لم يسلم من تداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية، فارتفعت أسعاره كثيرًا، وتغيرت مستلزمات صناعته وجودته، ففقد كثيرًا من رواده ومحبيه.
يطالعك السوق كما سورية بتناقضات عجيبة في معروضاته وتفاصيله: ملابس للصلاة والتعبد والحجاب، وإلى جانبها ملابس السهرات والرقص الشرقي واللانجري. محال فاخرة للذهب والمجوهرات، وبسطات تغطي أرض السوق ممتدة بعشوائية مفرطة، وعبثية، ينادي الباعة الجوالون عليها بصوت متقطع ومتعب: “عنا الأسعار أرخص… خود وامشي الله يجبر بخاطركم”.
وأنت تسير في السوق الفسيح رائع البناء تحت سقف مغطى بالحديد ومليء بالثقوب الصغيرة ومبلط بالحجر والبازلت الأسود يؤلمك ويقض مضاجعك أعداد المتسولين والمتسولات من الأعمار كافة، يفترشون الأرض تارة، ويلحقون الزائرين تارة أخرى، في سعي لامتحان كرمهم وقدرتهم على المساعدة.
سمي السوق بالحميدية نسبة إلى السلطانين عبد الحميد الأول، وعبد الحميد الثاني، وتم بناؤه على مرحلتين عامي 1780 و1884، ويقف في نهايته الجامع الأموي الكبير شاهدًا على كل ما يحدث، يطير الحمام حوله وكأنه يحاول حماية هذا الثراء من الغرباء الطارئين، وحماية آذان الجامع الذي لم تسمع مثله في أي بقعة على وجه الأرض.
لقد انعكست الأزمة الاقتصادية على السوق، وأرغمت بعض تجاره على تغيير مهنتهم، أو إغلاق محالهم، وراحت مهنة النقش على النحاس مثلًا تحاول الصمود في وجه هذا الخراب، كما يقول أبو هادي أحد روادها مضيفًا: “إن الطلب على المنتجات النحاسية تراجع كثيرًا في السنوات العشر الأخيرة، بسبب الارتفاع الكبير للأسعار، وتراجع عدد السياح العرب والأجانب الذي أصبح شبه معدوم، وشبه مقتصر على الزوار اللبنانيين والعراقيين والإيرانيين، وأما السوريون فيرون هذا المنتج كماليًا وغالي الثمن”.
مرت على السوق أحداث وحرائق طاولت المنازل والمحلات منذ عام 1912، وحتى الآن، وتسببت في خسائر فادحة بالأرواح والماديات، ولكن سوق الحميدية الذي يعود زمنيًا إلى حوالي مئتين وأربعين عامًا حافظ على وجوده وأصالته وجماليات ما فيه.
كانت الرحلة إلى الحميدية مثقلة بالهموم والأسئلة، ولكنها أيضًا تحمل ملامح القدرة على الحياة ومقاومة الحرب. تعب السوق من أثمان الحرب الباهظة، وتعب الأهل والمحبون، ومع ذلك حضرت في محال كثيرة منه تحف وملابس من التراث الفلسطيني القديم كتب عليها بمطرزات يدوية بديعة: فستان مقدسي ـ فستان غزاوي ـ لباس فلسطيني: إنا قادمون.