وضعت الفنانة رحاب نزّال هذا العام كتاب صورٍ فوتوغرافية بعنوان التحرك في فلسطين (Fernwood Publication)، داعية القارئ إلى الذهاب في رحلة في أرض فلسطين المستعمَرَة والمتقطعة حسب تمييز عنصري صارخ. الكتاب عبارة عن 188 صفحة، أغلبها صور ضوئية بالأبيض والأسود أُخِذت بين الـ2010 والـ2020، أي خلال عشرة أعوام، يتخللها نصوص من كُتّاب مختلفين وباللغتين العربية والإنكليزية، كل نص يناقش بدوره جانباً مختلفاً من الصور التي التقطتها الفنانة في أماكن مختلفة من الخريطة الفلسطينية ومناطق الاحتلال الإسرائيلي.

يدفع الكتاب القارئَ لطرح تساؤلات متعلقة بالنفوذ والهيمنة، الحياة والموت والمقاومة، ولعل أبرز المفاهيم التي قد تحضر عند تفحُّص صور نزّال هي مفاهيم وتعريفات المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي لسياسات الموت أو النكرووية (Necoroplitics). انشغل مبيمبي بتطوير إطار مفاهيمي عن السيادة المعاصرة وعنفها، والتي تتجلى بوضوح في الشكل الاستعماري وتتجاوز السياسات الحيوية لفوكو. يُعرِّف فوكو السياسات الحيوية على أنها نظام حكم منهجي لحياة السكان، تُسيِّر الصحة والولادة والجنس لفئة، وتتجاهل فئة أخرى وتدعها للموت. في الطرف الآخر، تعمل سياسات الموت عند مبيمبي على تسيير الحياة عن طريق إخضاعها للموت، عبر خنق ظرفِ الحياة وتعريض السكان لموتٍ بطيء مرة وسريع في مرة أخرى، واستنزاف إمكانية الحياة اليومية، لتنتج «بشراً أحياء كالأموات»؛ يعيشون دائماً ظرف الجسد المُستهدف أو المُصاب. نحن لا نرى أجساداً ميتة أو مُصابة في عمل نزّال، إنما صوراً تحدق بأجسام تُكوِّن البُنية المكانية لهذا الشكل من السيادة، التي بدورها تنتج مساحات الموت وتخضع السكان لرهابه.

تسعى السلطة الاستعمارية لإنتاج أنواع من البشر وتميزهم عنصرياً وتعطل الشكل المحلي للإنتاج وتنظيم الموارد. للتمكُّن من هذا المسعى تتجه لإنشاء بنية تحتية تُسيُّر عبرها شكل الحياة الجديد وتضمن استمراريتها، لتُحرك الأرض وتبني عليها، فتُمسي الأخيرة الحجر الأساس لنشوء قبضة شمولية. تمكِّن هذه البنية من ممارسة الهيمنة على الحياة والموت لسكان المستعمرات. يرصد عمل نزّال نتاج تحريك الأرض، فنشاهد البنية النابعة عنها المتباينة مع مساحات الوجود الفلسطيني. أهم ما يميز هذا التباين هو الشكل العَمودي للبناء الاستعماري بمحاذاة نظيره الفلسطيني منخفض الارتفاع، فنرى الأخيرة تمتد بتضاريس أفقية، والسابقة عمودية عالية، كالبرج والسور.

يرى مبيمبي أن إحدى خاصيات سياسات الموت – أو التمويت – هو بنية العنف العَمودي، حيث تسرع السيادة للاستيلاء على هضبات وجبال أعلى من البلدات المُسيطر عليها، أو أسطح مبانٍ تكشف ما يدور في الأسفل. أو تبني أبراج مراقبة، كما يظهر في عمل نزال. يُسهِّل هذا الشكل من عملية ضبط الحياة وإخضاعها، فهي تفتح كل مساحات السكان الأصلين على مدار عين السيادة؛ احتمالية تُخضع الحياة لسلطة الموت الحاضرة دائماً.

تظهر ثيمة المستوطنات في عمل نزّال، حيث نراها غالباً مبنية على تلال وهضبات مرصوصة بجانب بعضها، على عكس صور تُظهر مبانٍ عديدة لفلسطينيين تقع على مستوى منخفض نسبياً. يشير مبيمبي إلى مفهوم عمراني وضعه الباحث إيال وايزمان المنحدر من أصول إسرائيلية يكشف فيه البنية الرقابية للتصميم الحضري للمستوطنات. حيث يدَّعي أن استراتيجية السيطرة على التضاريس العالية في الحروب استراتيجية قديمة كقِدم ثقافة الحرب، لكن ما طورته إسرائيل في هذا المنحى هو بناء المستوطنات على أساس نظرة عسكرية عمرانية للهضاب.

تُظهر صور العمل بعض المستوطنات في نقاط أعلى من الشارع مثلاً، دون سور، ومصفوفة في نفس الاتجاه. يحيل وايزمان غياب السور إلى نزعة دينية تنص أنه على المستوطنات أن تكون على ارتباط مع باقي الأرض المقدسة، وبدلاً من ذلك يجب تسوير الأراضي الفلسطينية. نتج عن هذه النزعة خطة حماية بديلة للمستوطنات، تُؤمن أن الحماية الفعالة نابعة من إمكانية المراقبة القوية. بالتالي، نشأ تنظيم حضري موحد ينص على بناء المستوطنات في نقاط عالية، تنظر من داخل غرفها في اتجاه المنحدر، مع إضاءة ليلة شديدة على الداخل وحوله، لتحقيق رؤية واضحة وواسعة لرصد التهديدات الممكنة. تُمسي المستوطنات في ظرف عمراني كهذا وكالة بصرية للسيادة، «تتطابق وظيفة العين مع السلاح عند المستوطنين» كما الجنود، لرصد خطر محتمل متمثل بأي جسد فلسطيني يتحرك، وفقاً لما يذهب إليه وايزمان في تحليله.

السيادة العَمودية لا تستولي على أبنية وهضاب فقط، إنما تُطوِّع السماء أيضاً من أجل السيطرة على الأرض وسكانها، وأقصى طموحها أن تلغي إمكانية التنظيم السياسي. في عدد من الصور في بقع مكانية مختلفة ترصد الكاميرا منطاد مراقبة مُحمَّل بكاميرا على بعد غير واضح بالصورة. يرصد هذا المنطاد بدوره كل الأسطح وحركة الأجساد الفلسطينية فوقها، والتي قد تكون غير ظاهرة لعين الجنود وأبراج المراقبة.

يتحرك هذا البالون على مستوى منظور عين الطائر، تلك التي تعطي فكرة كلية عن مكان ما، تحلل حركة الأجساد في ذات اللحظة، وترصد الحارات والأزقة وتحول البلدات إلى ما هو أشبه بمعسكر اعتقال كبير. تتطلع هذه التقنية لتقويض العالم وتصغيره، تُأكد على كلية العالم بإطفاء شعورٍ بارتباط السماء بالأرض بوصفهم جسداً مُطَوعاً لتسهيل عنف السيادة، يسعى لخنق ظرف الحياة على إحدى فئاتها، فتمسي السماء تأكيداً على استحالة الحركة الحرة في الأرض، لتتحول في وعي الأفراد إلى مصدر عنفٍ وتحديق.

في بدايات الكتاب تعرض المؤلفة صورةً واسعة المدار لنقاط المراقبة، لكن لاحقاً تعرض لنا صورة ضيَّقت الكادر بتقنية تلتقط عبر شق شباك السيارة المفتوح بحذر. تلتقط الصور ذات الجسد بذات الوسيط، لكن أن وضعناهم في محاذاة بعضهم يخطر في بال المتلقي علاقة سياسية مباشرة، تغيِّر علاقة المُصورة مع المادة، مرة تُجابهها علناً، ومرة تلتقط ملامحها خلسةً، وكأنها فهمت قدرة تحديقها العُمودية، تلك القادرة على مراقبة كل الأجساد في ذات اللحظة.

هنا ندرك أنه ليس من الكافي التعامل مع عمل نزّال كتصوير لتضاريس ومساحات، ولا كوثيقة تدين المستوطنات وعدم شرعية وجودها، إنما هي، وفي لحظة الالتقاط، تحديقة تُجابه تحديق السيادة من الداخل.

يبدو أن برج المراقبة أكثر وسائل السيادة العمودية انتشاراً، فهو يظهر في أغلب صور نزّال على حائط الفصل، على حاجز عسكري بين مدينتين، داخل مقرٍّ عسكري. رأى مبيمبي أن سياسات الموت تستعين بأشكال عنف أخرى كالعنف الانضباطي، وتدمجه لتحقيق أكبر قدر من الترهيب. يعود برج المراقبة إلى الشكل الانضباطي الرقابي للسلطة، تلك التي لاحظ ميشيل فوكو صعودها في القرن التاسع عشر كجزء من تصميم المشفى والسجن، يسعى لفرض مراقبة مستمرة على الأجساد في مساحة حركة الأجساد.

ربط فوكو تاريخ تصميم عمارة مع سياسات ضبط الجسد، تلك التي تُبنى على أساس مركزي للمراقبة وتقسيم المكان، فيكون برج المراقبة فيها في المركز وتُبنى محطات الحركة والأجساد حوله بشكل دائري لتحقيق اقتصاد مراقبة فعال: أي مراقبة لأكبر عدد ممكن من الأجساد بأقل عدد من الحراس. نلاحظ هذه على طول عمل نزّال، الأبراج مغروسة في كل المدن التي زارتها، منصوبة لوحدها بين بلدتين، أو على تلة، أو في جدار الفصل ذاته، غالباً معززة بكاميرات مراقبة، فتتجاوز عين المراقب نحو تقنية التسجيل لتمسي حركة الأجساد المضبوطة بيانات خام للمؤسسة العسكرية. أحياناً كثيرة لا نعلم ما إن كانت تلك الكاميرات تعمل، لكن محض احتمالية عملها يستدعي انضباطاً بحركة الجسد وقدراً من الانصياع.

سؤال المقاومة وتجليها

يستطيع القارئ على طول الكتاب تقفي سياسات الموت الاستيطانية ضد الفلسطينيين، ضمن أدوات وبنية الإخضاع العَمودية هذه، في محاولة تعطل ظروف الحياة وإمكانيّتها. لتحوِّل المُستَعمرين إلى بشر كالأموات، تحاول النجاة بشكل يومي وتُجاور الموت بكل تحركاتها. لكن لا يمكن إنهاء الكتاب دون ملاحظة ملامح المقاومة المتداخلة بدورها مع بنية الهيمنة المكانية في صور الكتاب.

يعرِّف جيل دولوز الفن على أنه مقاومة، ليلتقط أغامبين هذا التعريف ويبني عليه أنه مقاومة بين الإمكانية وللإمكانية، لكن تعريفه هذا يأخذ معنى ميتافيزيقي للإنتاج الفني، أي بين أن ينفذ العمل الفني أو يُهجر ويبقى فكرة بدون تنفيذ. بالنظر إلى مجموعة من صور نزّال التي تُبرز ثيمة الغرافيتي، يمكن إزاحة تعريف أغامبين من منحاه الميتافيزيقي إلى مادية الحياة في ظل الاحتلال. فإذا كانت سياسات الموت وتركيبة بنيتها العمودية هي إخضاع الحياة للموت، فإن الفن في سياقٍ كهذا يعد مقاومة للموت رمزياً بذاته.

يتحدى المؤدي بنية تحتية مدججة بالسلاح والمراقبة، لينقش عليها كلمةً أو شكلاً كافييَن لفتح شق فيها يقلل من رهبة هذه البنية، ويؤكد على حياة الفلسطينيين مقابل ماكينة الموت. يُدرك عمل فني كهذا نفسه ضمن ظروف قوة تُسيِّر الوجود الفلسطيني نحو حياة مستحيلة، لكنه يتجاوز استحالة الحياة عبر الترميز على جدرانها بشكل مباشر، وبتحدٍّ لعيون المراقبة، مؤكداً استمراره في الوجود، واستحالة السيطرة الشاملة حتى ضمن بنية مكانية مُعَسكَرة كهذه.