وإذا حدث وأنك اضطررت إلى التحدث بلهجتك الفلسطينية، وسألك سائل بأي لغة تتحدث؟ فيمكنك أن تدعي أنك تتحدث الأرمنية، أو العبرية، أو السريانية، إنما لا تغامر بالاعتراف بأنك فلسطيني، أو عربي.
ولو حدث وأن أحدهم عرف أنك فلسطيني، وأبدى قليلًا من الفضول لمعرفة رأيك في ما يجري، فحاذر أن تكون غاضبًا، وأن تدين أحدًا. عليك أن تتخذ وضعية الضحية التي يمارس عليها الجميع عسفهم، والأهم أن تحتمي من غضبك، ومن فضول الآخر، وتجعل من أطفالك درعك الذي يحميك، كأن تقول له، أطفالي يريدون العيش بسلام، ولا ناقة لهم في ما يجري من حولهم، ولا جمل.
إنما مع ذلك، ولأنك تعيش في بلد غربي، فيمكن اعتبارك فلسطينيًا محظوظًا، لأنك تستطيع أن تنفق القسط الأكبر من وقتك في منزلك، ولا تخرج منه إلا للضرورة القصوى. إنما أيضًا عليك أن تحاذر الإقامة في حي مختلط. عليك الإقامة في حي يغلب عليه أبناء جلدتك وقومك. وهذا يشبه في ما يشبه الغيتو الطوعي، لكنه أكثر أمنا من الأحياء المختلطة. ولو حدث أن أقمت في مثل هذا الحي، فعليك أن لا تقيم على طرفه، دع الأطراف ليسكنها الذكور البالغون من العزاب. فهم أقدر على مواجهة التطورات، وحيواتهم أقل قيمة من حياتك إن كنت مسنًا، ومن حياة أطفالك وحياة النساء اللاتي يقمن معك، أو في جوارك.
أما إن كنت تقيم في بلد شرق أوسطي، فعليك أن تثبت لمن حولك أنك مستعد للموت في هذه اللحظة. إذ كيف يكون أهلك مقيمين تحت النار، وأنت تتظاهر فقط مثلك مثل بقية السكان الذين لا أهل لهم في غزة؟ وأفضل السبل لتتخلص من هذا الحرج الثقيل أن تحاول الدخول إلى غزة لتشارك أهلك موتهم ومذبحتهم.
مع ذلك، فإن إقامتك في بلد شرق أوسطي ليست أقل من امتياز لا يملكه أهلك المقيمون في الداخل.
وإن كنت تقيم في الأراضي المحتلة عام 1948، فمن الأفضل لك أن تلزم بيتك. أصلًا أنت لن تستطيع أن تخرج منه إلى أي مكان. وكان يجدر بك أن تربي بعض الدجاج، وقليلًا من الماشية خلف بيتك، أو في مطبخك، وأن تزرع بعض الخضار على الشرفة، أو في الأصص التي تحتفظ بها في صالون المنزل، أو غرفة النوم. ذلك أنه في أوقات المذابح، يجدر بك أن تأكل أيضًا لتنجو. وحيث أن الخروج من المنزل محفوف بالمخاطر، فعليك أن تقيم جمهوريتك المستقلة في منزلك المتواضع.
أما إن كنت تقيم في الضفة الغربية، والمذبحة جارية على قدم وساق في غزة، فيجدر بك أن تكون مختلفًا تمامًا في المزاج والشجاعة واللامبالاة عن غزة وأهلها. عليك أن تستيقظ كل صباح وأنت على أتم الاستعداد للموت برصاص جندي على حاجز، أو أثناء تفريق تظاهرة، لأن موتك يعفيك من هذه المعركة الموجعة مع الحياة. هذه الحياة التي لا تريد أن تنقضي، ولا تفعل، إثر كل انتفاضة من انتفاضاتها، غير أن تؤلم جسدك الراغب بالموت والسكينة.
أما إن كنت تقيم في غزة في زمن المذبحة، فسيصبح الأمر معقدًا قليلًا، لكنك بقليل من الحصافة والدراية ستنجح في أن تكون فلسطينيًا كما يريد لك العالم أن تكون.
إذا كنت ذكرًا بالغًا فإياك ثم إياك أن تطلب الأمان. وإذا اضطررت إلى تطلب الأمان والسلامة، فعليك أن تتذرع بأنك الوحيد القادر على إيصال أطفالك وأهلك المسنين إلى منطقة أكثر أمنًا، وأنك لم تفعل ذلك للنجاة بجلدك. أن تكون فلسطينيًا وذكرًا بالغًا يعني أنه لا يحق لك أن تقيم وزنًا لحياتك. أنت أصلًا تعيش في الفائض الذي فاض عن المذبحة السابقة، وعليك أن تشكر عدوك وصديقك على منحة الوقت الفائض التي حظيت بها من دون أقرانك وأخوتك ومجايليك.
وإن كنت طفلًا، فيجدر بك طبعًا أن تطمئن أمك العاجزة إلى كونها عاجزة، وإلى واقع أنها لا تستطيع حمايتك، وأنك لا تطلب منها الحماية التي تفوق طاقتها وقدرتها على تحقيقها. أن تكون طفلًا فلسطينيًا في زمن المذبحة، فهذا يعني أن موتك بدلًا من أمك سيكون أهون الشرور. ذلك أنها قد تحمل مرة أخرى، وتلد طفلًا إذا نجت من المذبحة، لكنها لو ماتت بدلًا منك وفداء لك، فإنك لن تستطيع أن تنجو من السلم المفترس، فكيف قد تنجو من المذبحة؟
وإن كنت امرأة في غزة في زمن المذابح، فيجدر بك أيتها الفلسطينية ألا تحزني وتجزعي لموت أولادك. أما في ما يتعلّق بزوجك وأبنائك البالغين، فيجدر بهم أن يموتوا وهم يحاولون حمايتك، أو حماية غيرك، ذلك أنك لا تملكين أفضلية في زمن المذابح على كل النساء الأخريات في المدينة والحي. عليك أن تمتنعي عن الحزن الشديد، وأن تستعدي للجولة القادمة. أما إن حدث وقتلتك قذيفة “طائشة”، فسنجد نحن الناجون، إذا ما واتتنا المصادفات وصدقت نوايا الآخرين وادعاءاتهم، من يرفع الصوت منددًا بموتك على شاشات التلفزيون، وفي وسائل التواصل الاجتماعي!