img

كان أحد الفلاسفة الفرنسيين خلال ثلاثينات القرن الماضي قد أجاب، عندما سأله أحدهم عمّا إذا كان لا يزال للثنائي يمين/يسار معنى: “كل ما أنا متأكد من قوله، أنّ الذي يسأل هذا السؤال، هو من اليساريين حتما”. عند نهاية ثمانينات القرن أجاب فيلسوف آخر عن السّؤال “كيف تعرّف المثقف اليساري؟”،قائلا: “هو من يقول إن الثنائي يمين/يسار ليس له معنى”

كان يكفي نصف قرن كي يفقد هذا الثنائي كل أهمّيته، وكي ينتقل المثقّف اليساري من تخوّف على أفول المفهوم إلى التخلّي عنه ونبذه. صحيح أنّ هذه الفترة لا ينبغي أن تقاس بالمدّة الزمنية، وإنّما بما حبلت به من تقلّبات أيديلوجية وسياسية واستراتيجية. لكن المهمّ هو أنّها، إن لم تدلّ صراحة على هشاشة الثّنائي، فهي تؤكّد تاريخيته، فتشير إلى أنّ له مولدا معيّنا وربّما نهاية محتملة، أو على الأقل، تناقصا في الاستعمال.

نعلم أنّ هذا التّمثيل المكاني للحياة السياسية قد عمّر قرنين من الزّمان، بدءا من الثورة الفرنسية. إذ إنّ هذا الثنائي لم يكن يعرف مثل هذا التوظيف قبل 1789، ولم يبدأ استخدامه الفعليّ بهذا المعنى إلا في عشرينات القرن التاسع عشر. أما ميلاده الحقيقي فيردّه المؤرخون إلى عودة الملكية في فرنسا بعد هزيمة نابوليون وخاصة في الدورة البرلمانية 1819-1820.

لا ينفي هذا، بطبيعة الحال، كون الدّلالات الرمزية لمفهومي اليمين واليسار قد وجدت قبل هذه الفترة، عند كثير من الثقافات، وفي كثير من الأديان، وأنّ اليمين اتّخذ دلالات رمزية فارتبط باليُمن والبركة والصّواب والضّبط والمهارة وحسن الطالع، بينما اتّخذ اليسار المعاني المعاكسة لكلّ هذه، فارتبط بالخلل والنّقص، بل بـ “الشيطنة”والمكر.

 

لو أجرينا اليوم استطلاعا في أيّ جهة من جهات العالم بهدف تحديد ما لليسار وما لليمين لتبيّن لنا أنّهم قلة أولئك الذين ما زالوا يميّزون هذا عن ذاك

 

 

وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الاستعمال الذي كان متداولا عند ثقافات الشّرقالأقصى التّقليدية يكاد يكون على طرفي نقيض مع تلك الاستعمالات الذي ظلّ التراث الغربي المسيحي يوظّفهما به قبل الثورة الفرنسية. تضع ثقافات الشّرق الأقصى التقليدية اليسار موضع الإيجاب، وتجعله مصدر يُمن. فالثّقافة الصينية، على سبيل المثال، كانت تضع اليسار جهة “اليان” والسّماء، وتجعل اليمين جهة “اليين”والأرض. يُقال إن الصّيني “يأخذ منك باليمنى ويعطيك باليسرى”. فاليسار بالنسبة إليه هو مصدر الخصوبة والعطاء.إلا أن الأهم من ذلك، أن التقابل بين اليمين واليسار في هذه الثقافة، لم يكن من قبيل التّعارض. فالطرفان يخضعان، مثلما هو الشأن في الثنائيات الأخرى، لمبدأي “اليين واليان”، اللذين يتقابلان من غير أن يتعارضا.

إلاّ أنّ ما يهمّنا هنا هو انتقال هذا الثنائي إلى المجال السياسي، والانقلاب الذي عرفته دلالاته الرّمزية، وانعكاسات توظيف هذه الاستعارة المكانية، في ما بعد، على سياسات الديمقراطيات النيابية. وقد يعترض علينا بأنّ هذا الثنائي لم يعد ذا قيمة، وربما لم يعد قادرا حتى على تحليل الحياة السياسية المعاصرة، ومتابعة تحوّلاتها. وبالفعل، لو أجرينا اليوم استطلاعا في أيّ جهة من جهات العالم بهدف تحديد ما لليسار وما لليمين لتبيّن لنا أنّهم قلة أولئك الذين ما زالوا يميّزون هذا عن ذاك. الشّعور الذي يسود اليوم هو أنّه لم تعد هناك مؤسسة بعينها تجسّد اليسار مقابل أخرى تجسّد اليمين. بل إن كثيرا من الآراء والأفكار مما كان يحسب على اليسار سرعان ما يغدو يمينيا، والعكس. نتبين ذلك بشكل ملموس كلّما اقتربت فترة الاقتراعات، حتى عند مختلف الديمقراطيات الغربية، حيث تتوحّد اللغة، وتتقاطع البرامج، وتختلط الأوراق، وحيث يتجلّى أنّ الخصامات التقليدية بين اليمين واليسار، سواء في مجال السياسة، وحتى في الميدان الفكري، ليست بالتقابل الذي تظهر عليه في البداية، وأنّها مجرد “خصامات عشاق”. تشهد على ذلك تلك الانتقالات و”التحوّلات” التي يعرفها ما كان يحسب على أحزاب اليسار حتى وقت غير بعيد.

لذا، يبدو، في بعض الأحيان، أن الثنائي أحزاب حاكمة/أحزاب معارضة أكثر إجرائية اليوم لمتابعة الحياة السياسية في كثير من البلدان. وما ينبغي التأكيد عليه هو أنّ ما نصفه بأحزاب المعارضة غالبا ما يضمّ، جنبا إلى جنب، ما كان يعدّ يمينا إلى ما كان يعد يسارا، وهذا ما يؤكد لنا الحق في أن نتساءل هل ما زال للثنائي يمين/يسار معنى؟

محاولة لإنقاذ هذا الثنائي، ومفهوم اليسار على وجه الخصوص، يحاول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز انتشاله من المجال السياسي الأيديلوجي، وتحديده تحديدا بصريا.لذا فهو يقول إن اليسار ليس مسألة مؤسسة. فليست هناك، ولا يمكن أن تكون هناك مؤسّسة يسارية. اليسارية ضد المؤسسة، مهما كان الشّكل الذي تتخذه هذه المؤسّسة، سواء أكانت هيئة حاكمة، أو هيئة حزبية أو نقابية. قد تتعاطف بعض المؤسسات مع اليسار، لكنّها لا يمكن أن تتطابق معه.اليسار هو أساسا مسألة إدراك وقضية منظور. هناك طريقتان لتمثل العالم، طريقة ترى الأبعد عبر الأقرب، والكلّ عبر الجزء، والموضوعي عبر الذاتي، والعمومي عبر الخصوصي، والأقلي عبر الأكثري… وطريقة مخالفة تسعى إلى أن ترى الأمور من منظور معاكس. هناك طريقة يمينية تضع دائرة الفرد، فدائرة الحيّ، فدائرة المدينة، فدائرة البلد، فدائرة القارة، فدائرة العالم.. لتعتبر أن قضايا الدائرة النهائية نابعة من قضايا الأولى متوقّفة عليها. أو لنقل، بلغة نيتشه، إنها ترى إلى العالم من خلال منظور الضفدعة. أما الطريقة الأخرى، فهي يسارية لكونها تنظر إلى الدائرة الضيّقة من خلال دوائر أوسع فتعتبر قضايا العالم قضاياها هي. بهذا المعنى فأنت لا تكون من اليسار حتى تعتبر، على سبيل المثال، أن قضايا المظلومين في العالم أقرب إليك من قضايا الحيّ الذي تقطنه. إنها الرّؤية إلى العالم من خلال منظور الجمل الذي يصغّر الكبير. هنا يُنظر إلى الأمور لا بهدف تكريس نموذج الأكثرية، وإنما استجابة لصيحة الأقليات. لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن يكون ضمن القلة القليلة. ذلك أن المقابلة بين الأقليات والأغلبية ليست على الإطلاق مقابلة عددية. إذ لو تصوّرناها كذلك، لكان العكس هو الصحيح، فالأقليات هي على الدّوام أكثر عددا من الأغلبية. وهذا لسبب أساس وهو أن الأغلبية قارّة ثابتة. في حين أنّ الأقليات هي في صيرورة دائمة. فنحن لا نُخلَق ضمن الأقلّيات، إنّما نصير كذلك. يصدق هذا على كل أصناف الأقلّيات، كما يصدق على اليسارية أنّى كانت.

 

لم تعد هناك آراء بعينها حكرا على اليسار وأخرى على اليمين. فكثير من الآراء مما يحسب على اليسار غدت يمينية والعكس

 

 

لم يعد اليسار مؤسسة نخدمها، ولا جهة نركن إليها، ولا فئة ننضم إليها. بل إنه لم يعد حتى أيديلوجية نعتنقها أو آراء نؤمن بها. اليسارية لم تعد خاصية آراء أو أفكار. لم تعد هناك آراء بعينها حكرا على اليسار وأخرى على اليمين. فكثير من الآراء مما يحسب على اليسار غدت يمينية والعكس. اليسارية ليست خصائص ونعوتا: إنها ليست سمةيحملها المرء على جبينه، ولا صفة تختص بها هيئة، ولا خاصية تطبع أيديولوجية بعينها. إنها حركة انفصال تقبع “داخل” الثنائي يمين/يسار لتنعش الاختلاف بين طرفيه، ولتبيّن أن وراء الانفصال المزعوم الذي يدّعيه الثنائي الميتافيزقي بين الطرفين تساكنا لا يكون اليسار يسارا إلا بما هو لا يكفّ عن فضحه وتفكيكه.