img

تاريخ غزة لم يبدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. هناك تواريخ سابقة، فيها الكثير من المآسي والمعاناة والعذابات والمعارك والهدن والصفقات. لم يبدأ أيضا مع احتلالها عام 1967، واتفاقات أوسلو عام 1993، وحديث مسؤولين إسرائيليين عن حلمهم في أن “يبتلعها البحر”، ولا مع الانسحاب منها في 2005 أو سيطرة “حماس” عليها عام 2007 أو العمليات العسكرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة

لكن لا شك أن 7 أكتوبر/تشرين الأول يوم مفصلي، وحجم المفاجأة التي فجرتها “حماس” غير مسبوق. ورد إسرائيل أيضا مفصلي، والخطة التي أعلنها قادتها لمستقبل غزة و”حماس” غير مسبوقة. اليوم، غزة وأهلها بين حدين.

بنيامين نتنياهو يريد وحكومته اليمينية المتطرفة، إجراء “تحولات كبيرة”. حصل على دعم غربي استثنائي ودفع أميركا للعودة العسكرية إلى الشرق الأوسط بعد 15 سنة من الخروج من هذه المنطقة. وأعلن أنه يخوض “حرب الاستقلال الثانية”، أي إنه يريد إجراء “تغيير استراتيجي” في المنطقة انطلاقا من غزة.

الهدف المعلن، هو القضاء على البنية العسكرية لـ”حماس” وقيادتها وتهجير أهلها من الشمال إلى الجنوب حاليا، وترك هدف تهجيرهم إلى سيناء مطروحا. التهجير والتفكيك عبر الاغتيالات والقصف والغارات، أو عبر التسويات والترحيل، كما حصل عند ترحيل قادة “فتح” من الأردن إلى لبنان بعد “أيلول الأسود” قبل خمسين سنة، ومن لبنان إلى تونس قبل أربعين سنة.

وفق هذا “الحد” ولإنجاز هذه “المهمة”، لن تكون الكلفة البشرية من أهالي غزة أمرا مهما. أما عن اليوم التالي، فيجري تداول أفكار مختلفة، بعضها جديد وبعضها الآخر قديم، تتضمن إما عودة السلطة وحركة “فتح” وإما تشكيل إدارة مدنية لحكم غزة مع تدفق استثمارات عربية وغربية لإعمار القطاع ونشر سلطة وقوات مراقبة وفتح طريق المفاوضات لتسوية سياسية.

 

 

هناك حد آخر؛ حيث ترى “حماس” أنه “لن يتحقق أي شيء من الخطة الإسرائيلية”، سوى زيادة عدد الضحايا المدنيين. عشرة آلاف ضحية من المدنيين والعدد قابل للزيادة. أما موضوع التهجير إلى سيناء، فلن يتحقق، “ولن تحصل نكبة جديدة ولن يركب أهالي غزة سفنا مهترئة كما حصل عام 1948”. وترى، أن المقارنة بينها وبين داعش في الموصل أو الرقة، وبينها وبين “فتح” في الأردن ولبنان “غير دقيقة، لأن حركة حماس جزء من المجتمع الغزي”، “وحتى لو هُجرت قيادات، فهناك جيل جديد”، إضافة إلى احتمال أن يملأ المتطرفون الفراغ “الحمساوي”.

هناك عتب كبير مضمر لدى قيادة “حماس” من عدم تدخل “حزب الله” وإيران بشكل مباشر عبر فتح معركة واسعة جنوبي لبنان. وجرى نقل هذا العتب في جلسات مغلقة. أحد تجليات الخيبة، كان انتقادات مسؤول سابق في الحركة خارج غزة، خالد مشعل، لإيران وجماعاتها، أعقبها رد مقربين من “حزب الله” في لبنان.

لكن رهان “حماس” لا يزال على “إغراق الجيش الإسرائيلي في أنفاق غزة”، وعلى أن يخفض نتنياهو سقف مطالبه مع مرور وقت العمليات العسكرية وارتفاع الخسائر بين صفوف جنوده وتنامي الضغط الشعبي عليه.

 

التوغلات في شمال غزة والمفاوضات في عواصم عدة، تدل على أن الحرب لا تزال في بدايتها رغم مرور ثلاثة أسابيع

 

 

هناك فرق بين “الحدين”. كثير من التاريخ والجغرافيا والآلام. لاتجوز المساواة بينهما. لكن المدخل الآني للجمع بينهما في هذه المرحلة، هو الأسرى. على عكس ما قيل، لا تزال المفاوضات قائمة لتبادل أسرى بين “حماس” وإسرائيل. هناك احتمالان: صفقة كاملة تتضمن إطلاق آكثر من 200 أسيرة من غزة مقابل ستة آلاف من سجون إسرائيل. صفقة جزئية، النساء والأطفال مقابل النساء والأطفال. أما عن الأجانب المحتجزين في غزة، فإن “حماس” تطالب بوقف إطلاق  النار وفتح ممرات إنسانية وتقديم مساعدات ووقود، فيما ترفض أبيب هذا العرض وتمضي في… غاراتها وتوغلاتها.

التوغلات في شمال غزة والمفاوضات في عواصم عدة، تدل على أن الحرب لا تزال في بدايتها رغم مرور ثلاثة أسابيع. إسرائيل، ترى أنها تخوض “حرب بقاء” ولديها “فرصة تاريخية” لإحداث تغييرات كبيرة، وهي لا تأبه لاتهامها بجرائم حرب أو حصار أو مطالبتها بوقف إطلاق نار أو بهدنة إنسانية.ويتحدث قادتها العسكريون عن “حرب طويلة”. أما “حماس”، فترى أن “منحى الأحداث يدل على أن الاحتلال في حالة تراجع والفلسطينيين في حالة صعود”، وترسم خطا بيانيا من عقود خلت وعقود قادمة وتاريخ طويل، لتثبيت تفسيرها.

 عليه، أسابيع وأشهر بطيئة وثقيلة ودامية تحشر غزة وأهلها… بين حدين.