من غير المرجح أن تؤدي الحرب في غزة إلى الضغط على إمدادات النفط والغاز العالمية حاليا، التي استطاعت أن تتجاوز تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، أو تتعايش معها، على الرغم من عدم وجود إنتاج للنفط في إسرائيل والأراضي الفلسطينية. إلا أن التصعيد السياسي في المنطقة يمكن أن يؤثر على معنويات المستثمرين في مشاريع المنبع للنفط والغاز في المنطقة.

لا بد من الفصل بين أسواق النفط وأسواق الغاز العالمية عند الحديث عن تداعيات الحرب على غزة، ففي وقت لا يوجد أي إنتاج للنفط في المنطقة، توجد حقول غاز بحرية مغمورة (Offshore Gas Fields) قبالة سواحل غزة وحيفا.

تأثير الحرب على النفط

تخطى سعر خام برنت 94 دولارا للبرميل نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2023 ثم شهد تراجعا حادا إلى 84 دولارا للبرميل في أسبوع واحد فقط حتى قبل اندلاع الأزمة، حيث ظهرت مقاومة واضحة كلما اقترب سعر خام برنت من 95 دولارا للبرميل.

لم تعد التطورات الجيوسياسية تؤثر في تحركات أسعار النفط، كما كانت في السابق، إلا إذا حدث اضطراب في الإمدادات. ولا يزال تأثير إنهاء العقوبات الاقتصادية على إيران وفنزويلا على توازن أسواق النفط العالمية غير واضح مع زيادة إمدادات النفط الخام من الدولتين وإمكان وصولها إلى مستويات كبيرة، وإن كان انتاج النفط الايراني والفنزويلي موضع تركيز.

لا يمثل سعر خام برنت عند نحو 90 دولارا مستويات أسعار مرتفعة أبدا، فمع احتساب التضخم، يكون السعر الفعلي نحو 71 دولارا، أي متوسط السعر الفعلي نفسه لعام 2018.

قد يكون التأثير الوحيد للأزمة الراهنة هو انعكاسها على معنويات المستثمرين في استثمارات المنبع على المدىيين المتوسط والطويل، مما قد ينعكس سلبا على توقعات مستقبل الإمدادات النفطية، حيث تعاني استثمارات المنبع من تراجع كبير منذ أزمة “كوفيد-19” لمحاولة تعويض الخسائر التي تكبدتها شركات النفط العالمية أثناء الجائحة.

التأثير أكبر على أسواق الغاز

بالنسبة الى الغاز، قفز مؤشر سعر الغاز الطبيعي في أوروبا (TTF) إلى نحو الخمس، فور اندلاع الحرب في غزة مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول، حيث ارتفع من 11 دولارا إلى قرابة 17 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية (mmBtu)، كما ارتفع سعر الغاز الطبيعي المسال في مؤشر اليابان وكوريا من 14,5 دولارا إلى قرابة 18,5 دولارا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.

 

لن تُحدِث صادرات الغاز الطبيعي المسال الإسرائيلي فارقا يُذكر في سوق غاز شمال غرب أوروبا أو سوق غاز البحر الأبيض المتوسط. وبصرف النظر عن الكميات الصغيرة نسبياً التي يتم نقلها عبر الأنابيب إلى الأردن المجاور أو إلى مصر، فإن سوق التصدير الحالي الوحيد لإسرائيل من حقول الغاز البحرية هو مصر، حيث لا تمتلك إسرائيل حاليا مرافق لتسييل وتصدير الغاز الطبيعي المسال.

من المرجح أن يكون للصراع الدائر تأثير تصاعدي محدود على أسعار الغاز على المدى القريب، يترجم بعلاوة الأخطار الجيوسياسية التي تتجلى بالفعل في أسعار الطاقة. إلا أن خطر تصعيد الصراع وتوسعه يمكن أن يتسبب بارتفاع في الأسعار على المدى القصير.

يستخدم الغاز الطبيعي المسال لتوليد 70 في المئة من الكهرباء في إسرائيل، بينما كان الفحم يهيمن على هذا القطاع في السابق. اكتشاف حقول الغاز البحرية، وأبرزها حقل تمار في عام 2009 وحقل ليفياثان في عام 2010، أدى إلى تعزيز هذا التحول الكبير في نظام الطاقة الإسرائيلي، وأن تصبح إسرائيل مُصدّرة للغاز إلى مصر والأردن.

ويستفاد من أرقام وكالة “ستاندرد أند بورز غلوبال” (S&P Global) أن إسرائيل أنتجت في عام 2022، نحو 21,9 مليار متر مكعب من الغاز، 11,4 مليار متر مكعب من حقل ليفياثان (قبالة سواحل حيفا) و10,2 مليار متر مكعب من حقل تمار (قبالة سواحل غزة). استهلك 12,7 مليار متر مكعب محليا، في حين تم تصدير 5,8 مليارات متر مكعب إلى مصر و3,4 مليارات متر مكعب إلى الأردن.

 

يستخدم الغاز الطبيعي المسال لتوليد 70 في المئة من الكهرباء في إسرائيل، وكان الفحم يهيمن على هذا القطاع في السابق، لكن اكتشاف حقل تمار في 2009 وحقل ليفياثان في 2010، أدى إلى تعزيز هذا التحول الكبير في نظام الطاقة الإسرائيلي، لتصبح إسرائيل مُصدّرة للغاز إلى مصر والأردن

 

 

يوفر حقل تمار أكثر من 70 في المئة من الطلب المحلي على الغاز في إسرائيل. وكانت شركة “شيفرون”، المشغلة للحقل تلقت تعليمات من وزارة الطاقة الإسرائيلية بوقف إنتاج الغاز من المنصة البحرية عندما بدأت حرب غزة. وإذا استمر إغلاق حقل غاز تمار لفترة أطول، فستستخدم إسرائيل أنواع وقود أخرى مثل الفحم وزيت الوقود لتوليد الكهرباء، وستضطر إلى استخدام الغاز من حقل ليفياثان لتلبية احتياجاتها الخاصة بدلاً من بيعه إلى دول مجاورة مثل الأردن ومصر. وقد لا يشكل ذلك تهديدا كبيرا على سوق الغاز الإقليمي وإمدادات الغاز الطبيعي المسال في أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء.

آفاق صادرات الغاز المسال

تعتبر قدرات تصدير الغاز الطبيعي المسال في شرق البحر الأبيض المتوسط متواضعة جدا لتشكيل أي انتكاسة في الإمدادات، خصوصا بالنسبة إلى دول الاتحاد الأوروبي مثل إيطاليا، التي تعتمد على الإمدادات من المنطقة في استراتيجيتها للاستغناء عن الغاز الروسي، وتستثمر شركاتها في البنية التحتية للإنتاج والتصدير في شرق المتوسط.

 

يتوقف مصير أكبر ثلاثة مشاريع لتطوير الغاز الإسرائيلي، تمار وليفياثان وكاريش، على زيادة الاستثمار والتوسع في مشاريع مرافق تسييل الغاز الطبيعي المسال وتصديره، ومن الممكن أن تؤدي الاوضاع الجيوسياسية إلى عرقلة الضخ الاستثماري، واستمرار الاعتماد على طريق تصدير رئيسي واحد، أي مصر، لسنوات عدة عبر أهم خط أنابيب يربط بين إسرائيل ومصر، وهو خط أنابيب “غاز شرق المتوسط” (EMG)، الذي يربط مدينة عسقلان، وهي مدينة إسرائيلية تقع على بعد 13 كيلومترا شمال غزة، بالعريش شمال سيناء في مصر.

 

بلغت صادرات مصر الإجمالية من الغاز الطبيعي المسال نحو 7 ملايين طن في عام 2022، منها 5 ملايين طن ذهبت إلى الاتحاد الأوروبي، مقارنة بواردات إجمالية للاتحاد الأوروبي تبلغ 96 مليون طن

 

 

في شهر يونيو/حزيران عام 2022، وقّعت المفوضية الأوروبية وإسرائيل ومصر مذكرة تفاهم ثلاثية في شأن توريد الغاز الإسرائيلي عبر البنية التحتية لتصدير الغاز الطبيعي المسال المصري إلى الاتحاد الأوروبي، حيث ستقوم إسرائيل ومصر وقبرص ببناء خط أنابيب شرق البحر الأبيض المتوسط لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر اليونان. وتبلغ التكلفة التقديرية للمشروع 6,5 مليار دولار. إلا أن الاضطرابات في المنطقة يمكن أن تعطل المشروع، الذي يواجه أيضا تحديات بسبب النزاعات الحدودية في المنطقة. ويرتقب للمشروع أن يكون مربحا نظرا إلى وفرة إمدادات الغاز الطبيعي، وإمكان رفع طاقته الانتاجية من 10 إلى 20 مليار متر مكعب سنويا. مع ذلك، قد يتم تثبيط المستثمرين عن الاستثمار في المشروع بسبب تكلفته العالية والصراعات.

بلغت الصادرات الإجمالية لمصر من الغاز الطبيعي المسال نحو سبعة ملايين طن في عام 2022، منها خمسة ملايين طن ذهبت إلى الاتحاد الأوروبي، مقارنة بواردات إجمالية للاتحاد الأوروبي تبلغ 96 مليون طن، ومقارنة بالتجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال التي تزيد على 400 مليون طن سنويا. على الرغم من ذلك، في ظل محدودية سوق الغاز الطبيعي المسال العالمية، فإن احتمال فقدان الإمدادات المصرية المتواضعة نسبيا في بداية الشتاء قد تسبب بضغوط تصاعدية على أسعار الغاز في كل أنحاء أوروبا وآسيا.

سيعتمد تأثير الأزمة على توازن الأسواق إقليميا ودوليا، وعلى مدى تفاقمها على المديين القصير والمتوسط، وعلى الأثر الأوسع نطاقا الذي يمكن أن يحدثه الضغط على إنتاج الغاز الإسرائيلي، وكذلك التأثير على مستقبل استثمارات مشاريع الغاز الطبيعي المسال على المدى الطويل في شرق البحر الأبيض المتوسط، وزيادة الأخطار الأمنية على سفن الغاز في المنطقة. ومن شأن توسع الصراع أن يزيد أيضا المخاوف في شأن أمن البنية التحتية التي تربط موردي الغاز في شمال أفريقيا وأوروبا، مما يزيد حالة عدم اليقين والتقلبات في أسعار الغاز.