“إعصارٌ عذب” هي الرواية الثانية، بعد “تانغو الغرام”، للكاتبة السورية شادية الأتاسي، الصادرة عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، في بيروت. وفيها تقتفي أثر الأولى في رصد تداعيات الحريق السوري، المباشرة وغير المباشرة، على شخوص ينتمون إلى الشريحة الوسطى، ينتشرون تحت كلّ سماء، ويعانون التشتّت بين منفى يصعب عليهم التكيّف فيه، ووطن لا يستطيعون العودة إليه، وتتجاذبهم مشاعر الغربة في الأوّل، من جهة، والحنين إلى الثاني، من جهة أخرى.
في العنوان، “إعصار عذب” عنوان شعري بامتياز، ذلك أن نعت الإعصار بالعذوبة يُشكّل انزياحاً عن المألوف، ويُقيم علاقة تضادٍّ بين النعت والمنعوت، والتضاد في صلب العملية الشعرية. وباقتفاء أثر العنوان في النص، نقع على مدلولات متعدّدة له، تتراوح بين التعبير عن حالة التوتّر الداخلي “كان إعصاراً اجتاحني بعنف” (ص 56)، والإحساس بوطأة الزمن “أيّها الوقت أنت إعصار بطيء” (ص 110)، والاعتمال الجميل “عصف ساحر بدأ ينطلق من داخلي” (ص 242)، والانفعال العنيف “إعصار كاد يصيبني بالجنون” (273). وهذه المدلولات جميعها تندرج في إطار المعنى المجازي للكلمة، وتقترب في بعضها من المعنى الشعري.
 الحريق السوري
في المتن، تقول الأتاسي حكاية الهاربين من الحريق السوري، الباحثين عن فرصة أخرى للحياة في الغرب، يعثر عليها بعضهم، ويتردّى البعض الآخر في مهاوي الغربة والوحدة والتشرّد على أرصفة المدن، فيغدو الهروب “من جحيم البلد إلى جحيم أشدّ هولاً”، على حدّ تعبير أحد شخوص الرواية، عازف الكمنجة السوري، على أحد أرصفة مدينة لوزان السويسرية (ص 192). والكاتبة تقول ذلك، من خلال حكاية سليمى الرئيسية، والحكايات الفرعية التي تحفّ بها وتتكامل معها لتقديم صورة عن الشتات السوري في الغرب الأوروبي. واستطراداً، عن الآثار المتمادية للحرب الأهلية على الضحايا.
  الحكاية الرئيسية 
في الحكاية الرئيسية، تمتد، على المستوى المكاني، بين حي المهاجرين الدمشقي وحي إشالان اللوزاني، وتتمحور حول سليمى، المولودة في أسرة دمشقية من خمسة أفراد، لأبٍ مدرّسٍ وكاتب ومعتقل سياسي، وأمٍّ ربّة منزل جميلة. وتغطّي، على المستوى الزماني، أربعة عقود ونيّف، هي عمر البطلة، في مرحلتي الوطن والمنفى؛ فترصد، في المرحلة الأولى: طفولتها المبكرة. نشأتها في عائلة حقيقية متنوّعة. زواجها الفاشل. إجهاضها القاتل. انغماسها في الكتابة، وطردها من الوطن، بسبب مقالات تصف فيها واقع الحال السوري. وترصد، في المرحلة الثانية: إقامتها في لوزان السويسرية، طيلة خمس سنوات. معاناتها الغربة والوحدة والحنين. عملها في تدريس اللغة العربية. صداقتها مع تلميذها البرتغالي باولو الصحافي والشاعر والأستاذ الجامعي. زواجها من كريم الكردي السوري الذي التقت به في مطار بيروت. موت أخيها نبيل دون تحقيق أمنيته الأخيرة في أن يدفن في الشام. انفصالها عن كريم، ومن ثمّ موافاته إلى باريس التي جاءها للعلاج، بعدما أُطلِقت النار عليه في القامشلي. هذه الحكاية تُشكّل إطاراً لحكايات أخرى، فرعية، تعيشها البطلة أو يفضي بها أصحابها إلى البطلة، تحف بالحكاية الرئيسية، وتتقاطع معها، وتتكامل لتشكّل معاً الحكاية السورية، في مراحلها الثلاث: ما قبل الحرب، خلالها، وما بعدها. وتقول ما تعرّض ويتعرّض له السوريون، في هذه المراحل، من قمع، واستبداد، واعتقال، وتعنيف، وقتل، وطرد، ونفي، وتشتّت تحت كلّ سماء.
  الحكايات الفرعية
في الحكايات الفرعية، تهبّ علينا، من “إعصار عذب”، الحكايات الآتية:
– حكاية الأب الذي يرث عشق الحرية عن أبيه، ويدرّس اللغة العربية، ويدخل السجن مرّات عدة، ويؤسّس مع رفاقه نواة حزب، ما يلبث أن ينشقّ عنه، ويبتعد من العمل الميداني لينخرط في الكتابة والنشر، غير أن هذا الابتعاد لم يحل دون اعتقاله والزجّ به في السجن، حتى إذا ما أُفرج عنه، يكون الموت بانتظاره.
– حكاية الأخ نبيل، اليساري المهتم باللغة والشعر والموسيقى، الذي تعتقله دورية أمنية مع أصدقائه، بضعة أسابيع، يعود منها “مزرقّ الوجه، مدمّى الجسم، محطّم القلب”، فيغادر البلاد إلى سويسرا، ويعاني الأمرين قبل أن تستقرّ أحواله، حتى إذا ما حضرته المنية، بعد مرض رئوي، تكون أمنيته الأخيرة أن يُدفن في الشام.
– حكاية الزوج سعد، المصاب بعقدة أوديب والمنخرط في علاقة مشبوهة مع جدّته، حتى إذا ما اكتشفت سليمى تلك العلاقة، تقوم الجدّة بدفعها بفعل الغيرة، ما يؤدّي إلى إجهاضها وفقدانها القدرة على الإنجاب، فتطلب الانفصال عنه، ويكون لها ذلك بعد لأي.
– حكاية الحبيب كريم الكردي، المقيم في باريس، الذي يعيش طفولة كئيبة ما بين عفرين والقامشلي ودمشق، وينضمّ في شبابه إلى أحد الأحزاب الكردية، فتقوم أجهزة الأمن بالتضييق عليه ومطاردته، ما يجعل والده يتدبّر أمر ترحيله إلى باريس، عبر عمّان، حيث يدرس الفلسفة، ويبدأ حياة جديدة، حتى إذا ما التقى بسليمى في مطار بيروت، وهي في طريقها إلى سويسرا، ينجذب أحدهما إلى الآخر، وتكون علاقة حب هاتفية، طيلة سنة، بينهما. تتكلّل بالزواج في سويسرا، فالانفصال، فالاتصال مجدّداً.
– حكاية عازف الكمنجة الهارب “من الاعتقال إلى سويسرا، متسلّلاً عبر تركيا وإيطاليا، ليتسكّع على أرضفة لوزان، ويعزف للمارّة كي يحصّل لقمة العيش، وهناك تتناهى إليه أخبار مقتل أخيه واختفاء والده وموت أمّه كمداً، فينتقل من دلفة المنفى إلى مزراب المصائب”.
– حكاية زينة ابنة أخيها، الغزالة العشرينية المتمرّدة، التي ترتبط بصداقة عابرة مع طالب الطب السوري نجاد، تنتهي بمجرّد اكتشافها تشدّده في معتقده وسلوكه، ولم تحل نشأتها السويسرية المتنعّمة دون تطوّعها لخدمة اللاجئين السوريين، في مخيم الريحانية التركي، حيث تلتقي بطبيب بريطاني من أصل سوري، ويكون ثمّة مشروع ارتباط بين الاثنين.
  هذه الحكايات الفرعية تشكّل تنويعات على الحكاية الرئيسية، وتتكامل معها لصياغة الحكاية السورية، حكاية الضحايا، بشكل أو بآخر، الذين جعلهم الاستبداد السياسي والقمع الأمني والحرب الأهلية يتشتّتون تحت كلّ سماء.
  نقاط تحوّل
 ثمّة نقاط تحوّل تتحكّم بمجرى الأحداث في “إعصار عذب”، يترتّب على كلٍّ منها تداعيات معيّنة، وتشكّل إطاراً للأحداث المترتّبة عليها. وهي نقاط قَدَرية تهبط على النص فجأةً، وتتسبّب كلّ منها في أحداث معيّنة، ترتبط، في ما بينها، بعلاقة سببية. وبذلك، نكون إزاء إطار قَدَري ومحتوى سببي، ينخرطان في علاقة جدلية، تتمظهر من خلال السرد الروائي. وحسبنا، في هذا السياق، الإشارة إلى أهم النقاط والأحداث المترتّبة عليها.
لعل نقطة التحوّل الأولى التي تغيّر مجرى الأحداث تتمثّل في اكتشاف سليمى أن زوجها سعد يعاني عقدة أوديب ويرتبط بعلاقة مشبوهة مع جدّته، ما يؤدّي إلى: اصطدامها به، دفعها من قبل الجدة، إجهاضها، فقدان قدرتها على الحمل، طلاقها منه، وخروجها من التجربة بجرح يلازمها لما تبقّى من حياتها.
ولعلّ نقطة التحوّل الثانية تتمثّل في لقائها بكريم في مطار بيروت، ويترتب عليها: انجذاب أحدهما إلى الآخر، اهتمامه بها، تبادل الرسائل الغرامية بينهما، الزواج، إخفاؤه معلومات شخصية عنها، انفصالها عنه، عودته إلى أربيل لمعالجة مشكلات محلّية.
ولعلّ نقطة التحوّل الثالثة تتمثّل في إطلاق النار على كريم، في طريق عودته إلى القامشلي، ما ينجم عنها: عطب في ساقيه، قلقها الكبير عليه، اتصاله بها، سؤاله إياها إن كانت تستطيع موافاته إلى باريس حيث سيتابع العلاج، إبداء موافقتها على الفور بالقول: “سأكون هناك، سأكون في انتظارك” (ص 274)، ما يشي بانتصار الحب، في نهاية المطاف، على سائر المعوقات التي تعترض طريقه. ويعكس قدرة البطلة على تجاوز كلّ الصعاب، وهي التي ما فتئت تكرّر عبارة “لن أهزم” كلازمة، في مواضع مختلفة من الرواية.
 هذه الحكايات، الرئيسية والفرعية، تصوغها شادية الأتاسي بلغة سردية رشيقة، تجري على رسلها، وتنتقل من الرئيسية إلى الفرعية، ومن الثانية إلى الأولى، بسهولة ويسر، فتبدو الحكايات الفرعية جزءاً من الحكاية الأم، وتذكّرنا بمرونة الانتقال من حكاية إلى أخرى، في “ألف ليلة وليلة”، مع فارق أنّ الحكايات، في هذه الأخيرة، تتمتّع باستقلالية نسبية، ولا تشكّل أجزاءً من الحكاية الأم. ولعل إسناد الكاتبة مهمّة الروي إلى بطلة الرواية يجعل العملية السردية مشوبة بالبوح والاعتراف والإفضاء والفضفضة، ناهيك بسرد الأحداث ووصف الفضاءات المختلفة. وجميع هذه المواصفات تجعل من الرواية إعصاراً  عذباً، يهبّ على القارئ، ويدغدغ أغصانه دون أن يقتلع الأشجار من جذورها.