رغم أنّ الحالة السورية الراهنة فيها ما يكفي من الأحداث والتغيرات اليومية ما يجعل من أي حديث “سوريّ” عما يجري في غزة نوعاً من الهرب من استحقاقات محلية ذات أهمية قصوى للسوريين جميعاً بدءاً من العدوان التركي المتكرر على مناطق شمالي سوريا وهو تصعيد لم يحدث بهذا الشكل منذ العام 2019، وليس انتهاءً بما يجري في مناطق غرب البلاد حيث تستعيد دمشق زمام المبادرة ضد مسلحي المعارضة المدعومين من تركيا أيضاًـ إلا أنّ التشابك في الملفات الإقليمية يدفع إلى اليقين أنّ ما ستنتهي إليه الأحداث في غزة سوف يترك ثقله على الساحة السورية.

من الصحيح أنّ سؤال: ماذا بعد غزة؟ سبق وطرح عشرات المرات منذ العام 1967 وقتما احتلت “إسرائيل” قطاع غزة وأخرجته من الرعاية المصرية، وتصاعد السؤال أكثر منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 التي كانت نقطة تحوّل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بالنسبة لحركة الإخوان المسلمين التي تتبع لها حماس تنظيمياً وفكرياً، وهو ما شكّل اختلالاً في توازن القوى السياسية على الساحة الفلسطينية بين الإسلاميين والقوى الأخرى التي كانت في غالبيتها قومية أو علمانية الطابع مع ما يعنيه ذلك من اختلاف في الأولويات الفلسطينية وتزايدت المسافات بين هذه الأطراف مع اتجاه السلطة الفلسطينية في رام الله لتوثيق علاقتها مع المحتل في تل أبيب بطرق تتناقض مع أساسيات المشروع الوطني الفلسطيني نفسه.

مع ما يجري في غزة اليوم يحضر مصير ومآل المشروع الوطني الفلسطيني كأحد أهم الأسئلة التي ستلي هدوء الأوضاع في شمال القطاع مع إصرار إسرائيلي قاطع على ترحيل مليون لاجئ جنوباً باتجاه النقب، حيث الصحراء في انتظارهم، أو باتجاه بقية القطاع حيث تبلغ الكثافة السكانية أعلى مستوياتها في أية بقعة من العالم، إذ يُتوقع أن يصبح عدد سكان جنوب غزة مليوني شخص يعيشون في أقل من عشرين كيلومتر مربع.

ليس هذا المشهد الواقعي الذي يحصده الفلسطينيون نتيجة “طيّبة” لهجوم حماس على مستوطنات غزة، إذ يمثل فعلياً خسارة جديدة للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية،  يضاف لها خساراته من الشهداء والبنى التحتية التي بالكاد تكفيه لحياة غير طبيعية تحت حصار مستمر منذ سبعة عشر عاماً على الأقل، وعلى هذا يبقى الناس في غزة تحت رحمة المساعدات الدولية التي لن تستمر إلى الأبد.

كذلك، فإن نتيجة هجوم حماس الأبرز في جانبها الإسرائيلي هي تحقيق الأخيرة “نصراً” يخفي وراءه ما تحدثت به وسائل إعلامية عن البدء بمشروع قناة “بن غوريون” التي تصل البحر الأحمر بالبحر المتوسط، لتتحول إسرائيل إلى محطة تجارية أساسية بين الشرق والغرب مع المشروع الهندي اﻹماراتي الموافق عليه أميركياً والمتضاد مع مشروع طريق الحرير الصيني (مبادرة الحزام والطريق)، مع ما يعنيه ذلك من خسارة مصر أحد أهم مراكز قوتها الجيوسياسية، أي قناة السويس، ولا يشكل هنا الاعتراض المصري على ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء أية قيمة، بالنظر إلى أنّ المسألة ليست في هذا الموضع قط، فحتى مع بقاء اللاجئين داخل منطقة النقب، فالنتيجة الإسرائيلية المطلوبة قد تحققت، وخسر الفلسطينيون مرة ثانية وثالثة في حساباتهم السياسية والعسكرية مما لا يتحمله المشروع الوطني الفلسطيني في توقيت انفكاك العالم عنه منذ بدء الاحتلال العام 1947.

الخسارة الفلسطينية هذه المرة كبيرة، ولا يعوّض عنها تضامن العالم ومظاهراته المناصرة للحق الفلسطيني ولا جدل “باسم يوسف” وانتصاره على “بيرس مورغان” على شاشة البي بي سي، فهذه كلها هوامش لا قيمة لها في حسابات السياسية والاقتصاد، ولعل أهمية المشروع الهندي الإماراتي هي التي دفعت واشنطن للحضور مباشرة بكبرى بوارجها إلى مقابل فلسطين ولبنان لمنع من يفكر في إيقاف المشروع من المضي في المغامرة ضده، فهذه ليست المرة الأولى التي تشتبك فيها حماس مع الاحتلال، وليست المرة الأولى التي تقصف فيها إسرائيل القطاع بوحشية بما في ذلك مشافٍ مثل المشفى الأهلي المعمداني، والتي لن تكون الأخيرة.

على هذا فإنّ دمشق التي تراقب الحدث الفلسطيني دون قدرة على التدخل أو التأثير في مجرياته، رغم عودة العلاقات بين دمشق وحماس إلى سابق عهدها، ستجد نفسها مرة جديدة في صفوف الخاسرين غير المباشرين، فرغم احتمال كبير لعدم تدخلها المعلن، فإن السمعة التي تقدم نفسها فيها كدولة “مقاومة” ستكون في أسوأ أوصافها، وخارج هذه النقطة، فإنّ العرب المطبعين مع دمشق، سوف يكونون على مرمى من محاولات جديدة لجذب دمشق إليهم خارج المدار الإيراني عبر تطبيع يبدأ من الباب الاقتصادي.

على الجانب نفسه، فإنه وفي حال بقي التوازن الهش بين طهران وتل أبيب على حاله، ولم تتغير افتراضاته الواقعية والوهمية التي قام عليها نزاع الطرفين التصعيدي، نحو التصعيد العسكري على الجبهة السورية أو اللبنانية، فإنّ إسرائيل لن تلبث أن تستعيد ضرباتها لمواقع القوات اﻹيرانية في سوريا دون رد مباشر من طهران، في لعبة استنزاف مستمرة للقوة السورية، وهو ما يعني إلى حد كبير أن المشهد السوري الراهن لن يشهد كثيراً من التغيرات السنوات القادمة بالنظر إلى ثقل الملفات العالقة بين طهران وواشنطن، التي تحتاج فيها الأولى إلى الحذر الشديد في حساباتها الإقليمية والدولية.

ما يحدث في غزة اليوم هو صراع قابل للاحتواء ببساطة من قبل إسرائيل لأنه ليس لأحد مصلحة في تطويره نحو حرب إقليمية، بما في ذلك واشنطن التي تحضر المعارك الجارية وعينها على أوكرانيا والصين، وبالطبع على حماية اسرائيل من أعداء لم يتخذوا قراراً بمهاجمتها ﻷسباب تتعلق بحسابات كل طرف على حدة في علاقته مع واشنطن بالدرجة الأولى، من هنا تكفي “بيانات الشجب والإدانة والدعوة للالتزام بالقانون الدولي”، وحتى تركيا تفعل هذا، وتكفي حركات “صغيرة” لامتصاص الغضب الشعبي.

أخيراً، ليس هناك ما يضمن ألا يتحول الصراع إلى حرب إقليمية فالموقف على الأرض حتى اللحظة متبدل ومائع إلى حد كبير، والتغيرات المحتملة في الحسابات الاستراتيجية قد تدفع إلى ساحة معركة، وفي دمشق، تحديداً، قد يكون الوصول إلى هذه الحرب، بداية لتغيير استراتيجي كبير في موقع سوريا من صناعة السياسة في الشرق الأوسط.