Al Majalla

وقّعت شركة “إي. بي. تي. لتصدير الحبوب” الروسية اتفاقاً في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لتزويد الصين 70 مليون طن من الحبوب والبقوليات والبذور الزيتية، وقدّرت قيمة الصفقة بنحو 25,7 مليار دولار. وجاء هذا الخبر بُعيد الاتفاق الذي أعلن في الشهر المنصرم بين روسيا والصين للاستثمار في “ممر برّي للحبوب” بقيمة 160 مليون دولار أميركي، يقع بين فلاديفوستوك في روسيا ومقاطعة هيلونغجيانغ في الصين. ولهاتين الصفقتين، عند أخذهما معاً، آثار خطيرة على كلا البلدين، وبقية العالم.

أنتجت روسيا محصولاً وفيراً من القمح في سنة 2023، وحقّقت صادراتها للصين، وفقاً للمرصد الزراعي في البلاد، رقماً قياسياً بلغ 3,5 ملايين طن من الحبوب منذ مطلع 2023، ما يمثل 2 في المئة فقط من الواردات السنوية إلى البلاد، وأكثر من الـ 2,2 مليون طن التي صدّرت في سنة 2022 بأكملها. فقد ارتفع إنتاج القمح في روسيا بنسبة تزيد على 60 في المئة خلال العقد الماضي، وهذا ما جعلها أكبر مصدّر لهذه الحبوب في العالم.

 

رويترز

جمع محصول القمح في أثناء الصراع الروسي الأوكراني بالقرب من مستوطنة نيكولسكي في منطقة دونيتسك، أوكرانيا التي تسيطر عليها روسيا، 19 يوليو/تموز 2023 

وتستأثر روسيا بنحو 14,4 في المئة من صادرات القمح العالمية الإجمالية، ولا تتخلّف أوكرانيا عنها كثيراً بنسبة 9,5 في المئة. وقد توقّفت صادرات القمح من أوكرانيا تماماً في الأشهر القليلة الأولى التي أعقبت الغزو الروسي الواسع النطاق في فبراير/شباط 2022. وأدى التنسيق المشترك بين العديد من الجهات الفاعلة الدولية إلى اتفاق البحر الأسود للحبوب في يوليو/تموز 2022، الذي وضع إجراءات للتسليم الآمن للقمح من أوكرانيا عبر طرق محدّدة.

 

ستمنح هذه الصفقة، مع الممر البرّي الجديد للحبوب، روسيا خياراً قوياً لصادراتها من الحبوب، وتسمح لها بتعزيز مقاومتها للضغوط التي يمارسها الغرب في شأن هذا الموضوع في سياق الحرب في أوكرانيا

 

 

غير أن صلاحية هذا الاتفاق انتهت في يوليو/تموز 2023، وقالت روسيا إنها لا تعتزم مراجعة موقفها في هذا الشأن “إلى أن تتحقّق نتائج ملموسة، بدلا من الوعود والتطمينات”. وأبدت اعتراضات تشمل الزعم بأن أكثر من 70 في المئة من صادرات القمح توجّهت إلى الدول المتقدّمة اقتصادياً، في حين حصلت الدول الأكثر فقراً في العالم على 3 في المئة فقط. وزعمت أيضاً أن الشركات الغربية تحقّق أرباحاً غير أخلاقية من الاتفاق.

هذه الصفقة مع الصين تمنح روسيا الآن خياراً قوياً لصادراتها من الحبوب وتسمح لها بتعزيز مقاومتها للضغوط التي يمارسها الغرب في هذا الشأن في سياق الحرب في أوكرانيا. من الواضح أن هذا الضغط لا يزال قائماً، كما تظهر التعليقات الأخيرة التي أدلى بها جوزيب بوريل، الممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية؛ “طلبت من الصين استخدام نفوذها لدفع روسيا إلى العودة إلى مبادرة اتفاق الحبوب للسماح بتصدير الحبوب الأوكرانية إلى بقية العالم. وبخلاف ذلك سنواجه أزمة غذائية أخرى”.

وتشكل هذه الصفقة بالنسبة الى الصين خطوة كبيرة إلى الأمام في مجال الأمن الغذائي. وقد ذكرت صحيفة “غلوبال تايمز” أن الحكومة الصينية تمكّنت من تحقيق بعض مستويات الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية الأساسية، لكن الصين لا تملك سوى سبعة في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم في حين أنها موطن لنحو 18 في المئة من سكان العالم. وكانت الصين قد رفعت القيود المفروضة على واردات القمح والشعير الروسي في فبراير/شباط 2022، لكن التحدّيات اللوجستية ظلت قائمة لأن طريق البحر الأسود لا يزال الخيار الرئيس لهذه الإمدادات.

وتشكل عموما جزءا من محفظة تجارية متنامية بين روسيا والصين. ويشار إلى تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس/آذار 2023 بأن ثلثي هذه التجارة تتم باليوان الصيني والروبل الروسي، مما يقلّل من اعتماد هاتين الدولتين على الدولار الأميركي.

لهذه الصفقة أيضاً تأثير على بقية العالم. فقد اتضح أن إحدى الأدوات التي استخدمها الغرب للضغط على روسيا – الحدّ من صادراتها من القمح – أصبحت الآن غير مطروحة إلى حدّ كبير. لم يفرض الغرب أي عقوبات مباشرة على صادرات القمح الروسية، لكن القيود المفروضة على بعض المصارف والشركات الروسية زادت صعوبة إجراء بعض هذه المعاملات. وبما أنه لا يوجد مثل هذه القيود على روسيا في السوق الصينية، فإن الصفقة الجديدة ستسهّل الأمور على هذا الصعيد أيضاً. كما أن الصين، بتلبية احتياجاتها من خلال روسيا، ستخفّف قدراً كبيراً من الضغوط عن أسواق الحبوب لصالح المستهلكين العالميين الآخرين.

وكان وِندونغ تشانغ، الأستاذ المشارك للاقتصاد في جامعة ولاية أيوا، قال في يونيو/حزيران 2022 إن الصين تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، لكنها قد لا تتمكّن البتة من تحقيق هذا الهدف.

 

ما لم تحقّق الصين ارتفاعاً كبيراً في إنتاجها، وهو أمر مستبعد على المدى القصير، فسيظل تأثيرها في السوق العالمية كبيراً جداً، لا سيما أن ارتفاع الدخل يمكن أن يزيد دورها في المنتجات الزراعية للمستهلكين

 

 

وأضاف: “على العموم، ما لم تحقّق الصين ارتفاعاً كبيراً في إنتاجها، وهو أمر مستبعد على المدى القصير، فسيظل تأثيرها في السوق العالمية كبيراً جداً، لا سيما أن ارتفاع الدخل يمكن أن يزيد دورها في المنتجات الزراعية التي تتوجّه إلى المستهلكين. لا شك في أن التحدّيات السياسية التي تثيرها الصين ستكون قائمة دائماً، لكنني متفائل بأنهم سيواصلون الاستيراد، سواء من الولايات المتحدة أو أي مكان آخر”. وهذا “المكان الآخر” هو روسيا حاليا.

ومن المنتظر أن تتعزّز صفقة الحبوب بإبرام اتفاق بين الحكومتين عندما يزور رئيس وزراء روسيا ميخائيل ميشوستين الصين في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني أو أوائل ديسمبر/كانون الأول.  والعالم يراقب.