في 23 نيسان (أبريل) 2024، اختُتمت أعمال القمة الثلاثية الأولى، التي دعا إليها الرئيس التونسي قيس سعيّد، وشارك فيها كلّ من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي. لم يخرج البيان الختامي للقمة بقرارات كبيرة، ولكن انعقادها في هذا التوقيت، وضمن هذه التركيبة، أعطاها أهميةً جيوسياسية، إذ بدت الخطوة الجديدة للبعض محاولةً لإنقاذ الاتحاد المغاربي، على رغم استثنائها بلداً مركزياً فيه هو المغرب، وموريتانيا أيضاً، فيما رأى فيها البعض الأخر تجاوزاً للاتحاد نحو صيغة سياسية للعمل المشترك. وفي الحالتين سيكون لهذا التوجه تداعياته على الإقليم وسكانه مستقبلاً.

بعد محاولات طويلة لتوحيد دول المغرب العربي انطلقت منذ النصف الأول للقرن العشرين، نجح قادة هذه الدول في عام 1989، في تأسيس كيان يشكل بداية لما يمكن أن نسميه الحد الأدنى للوحدة، هو “اتحاد المغرب العربي” الذي تمثلت أهدافه الأولى في تسهيل حرية حركة الأفراد والبضائع. لكن أحداث عقد التسعينات المضطرب عصفت بهذا الكيان، بدايةً باختلاف دوله بشأن الموقف من غزو الكويت، وما تبعه من تدخل للتحالف الدولي في العراق، ثم الحرب الأهلية في الجزائر، والحصار الأميركي ضد ليبيا، ولكن القضية الأبرز التي جمَّدت عمل الاتحاد كلياً هي تطور الخلاف بين الرباط والجزائر حول مسألة الصحراء الغربية، الذي وصل الى حدّ إغلاق الحدود البرية بين البلدين في عام 1994.

وبعد ثلاثة عقود من دخول الاتحاد المغاربي في حالة الجمود، تطورت في خلالها الخلافات المغربية الجزائرية إلى حد إعلان الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في آب (أغسطس) 2021، وفي الوقت نفسه تطورت العلاقات بين تونس والجزائر إلى نوع من التحالف الاستراتيجي، بعد دعم الجزائر الرئيس قيس سعيّد في تغيير النظام السياسي بدءاً من 25 تموز (يوليو) 2021، وتقديمها دعماً مالياً لتونس خلال الأزمة الاقتصادية. هذا السياق الجيوسياسي الجديد، جعل الجزائر ترى فرصةً لإمكان بناء تكتل مغاربي جديد يستثني خصمها المغرب الأقصى.

وقد حذَّر مراقبون مغاربة منذ وقت طويل من وجود مشروع لإعادة تشكيل “مغرب عربي من دون المغرب”، لكن على المستوى الرسمي لم تظهر هذه المبادرة التي لم تستثنِ فيها الجزائر المغرب علناً ولكن ضمنياً، إلا في القمة السابعة لمنتدى الدول المصدرة للغاز، التي عُقدت في العاصمة الجزائر بين 29 شباط (فبراير) و2 آذار (مارس) الماضي، إذ عقد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، على هامش تلك القمة، لقاءً ثلاثياً مع نظيريه التونسي قيس سعيّد، والليبي محمد المنفي، من أجل “تكثيف الجهود وتوحيدها قصد مواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب”، بحسب بيان الرئاسة الجزائرية. وكان القادة الثلاثة قد اتفقوا على هامش قمة الغاز على “عقد لقاء مغاربي ثلاثي، كل ثلاثة أشهر، يكون الأول في تونس”.

من خلال البيان الختامي للقمة الثلاثية في تونس، شَكّلت قضايا حماية الحدود المشتركة من التهديدات، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع، وتشجيع التجارة البينية وإنشاء مناطق حرة بين البلدان الثلاثة، النتائج الرئيسة لهذا الاجتماع التشاوري الأول. يبدو مُعلناً أن فكرة الترويكا المغاربية الجديدة جزائرية بالأساس، لذلك فإن الرهان الأكبر لهذا التكتل الإقليمي الذي لا يزال في طور التشكيل، هو رهان جزائري في المقام الأول. فالجزائر هي صاحبة الفكرة، وهي الطرف الأقوى، جيوسياسياً ومالياً، في المعادلة الثلاثية التي تجمعها مع تونس وليبيا، اللتين تعانيان أزمات سياسية وأمنية واقتصادية، ومن ثمَّ فإن المتوقع أن تكون الجزائر أكثر المؤثرين في قرارات هذا التكتل، وسيعطيها ذلك قوةً جيوسياسية في محيطها الإقليمي المباشر، لا سيما في قضايا مثل الهجرة والطاقة.

وفيما قد تراهِن الجزائر، أيضاً، على عزل المغرب الأقصى عن محيطه المغاربي الأوسع، من خلال الاشتغال على هذا التكتل، فإن الرهان الأساسي لتونس يتمثَّل في الخروج من أزمتها الوطنية المتعددة الأوجه؛ فمن جهة أولى، قد يكون التكتل الثلاثي مصدر نجاة لها من الأزمة الاقتصادية، عبر زيادة حركة الأفراد والبضائع مع جاريها الكبيرين، وهو ما سيخفف من معدلات البطالة في البلاد، ويفتح آفاقاً جديدة للرأسمالية التونسية التي تعاني ضيق السوق الداخلية. ومن جهة ثانية، قد يراهِن الرئيس قيس سعيّد على الاستفادة من التكتل الثلاثي الجديد من أجل الحصول على دفع سياسي يحسِّن موقفه في هذا العام الانتخابي، الذي يحتاج فيه إلى قاعدة شعبية مستقرة، وربما يعطيه أيضاً قوة في موقع التفاوضي مع الأوروبيين حول قضية الهجرة. أما في الجانب الليبي، فلا تبدو الرهانات واضحةً، بسبب ضعف الموقع التمثيلي للمجلس الرئاسي، حيث الصلاحيات الأكبر تقع بيد الجهات التنفيذية، لا سيما حكومتي شرق البلاد وغربها، كما أن ليبيا لا تزال تتلمس طريقها نحو تحقيق الاستقرار السياسي الذي من شأنه أن يبلور مشروعاً وطنياً واضحاً.

على مستوى التحديات، يبرز تحدٍّ أول يتمثَّل في مدى إرادة قادة البلدان الثلاثة وقدرتهم على الخروج من الشكل التشاوري للترويكا المغاربية، وتحويله إلى صيغة سياسية رسمية مُلزِمة، بخاصة أن التاريخ المعاصر للمنطقة مليء بالمحاولات التوحيدية الفاشلة. لكن التحدي الأكبر يكمن في أن بناء هذه الفكرة يبدو قائماً على إرادة أفراد، وليس نتيجة عمل مؤسسي مدروس، لذلك فإنها ستبقى رهناً بوجود هؤلاء الأفراد في السلطة، وقد تتلاشى بمجرد خروجهم منها. كما سيبقى عامل استبعاد المغرب الأقصى وموريتانيا من هذا التكتل نقطة ضعف جوهرية يصعب تجاهلها، لا سيما في ظل وجود تحفظات ليبية مُعلنة على ذلك، قبل المشاركة في قمة تونس وبعدها؛ فبعد أقل من يوم على القمة أرسل رئيس المجلس الرئاسي الليبي إلى العاهل المغربي رسالة أكَّد فيها “تشبُّث بلاده بإحياء تكتل اتحاد المغرب العربي، باعتباره الإطار الوحيد للدول المغاربية الساعية نحو التكامل وتحقيق طموحات الشعوب”، أي أن ثمة رفضاً ليبياً ضمنياً لفكرة “المغرب العربي من دون المغرب”، وهو ما يطرح تساؤلات إضافية حول مدى قناعة الثلاثي بالصيغة الجديدة للعمل المغاربي، أم أن الفكرة تقوم أساساً على تحالف استراتيجي تونسي-جزائري، لا سيما أن العلاقات بين تونس والرباط ليست في أحسن أحوالها منذ آب 2022، عندما كسر الرئيس سعيّد حياد بلاده في قضية الصحراء الغربية، بعدما استقبل قائد جبهة “البوليساريو” إبراهيم غالي، على هامش ندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا.

مستقبلاً، تبدو الترويكا المغاربية الجديدة أمام ثلاثة مسارات ممكنة. أولاً، مسار تطوري، وفيه تتطور القمم التشاورية نحو بلورة صيغة للعمل المغاربي المشترك، وربما تضم إليها أعضاء جدداً مثل موريتانيا، أو حتى دولاً من خارج المغرب العربي مثل مصر، بحكم الامتداد الجغرافي، أو دولاً من أفريقيا جنوب الصحراء. وعلى رغم هذه الإمكانية التطورية، فإن ذلك لا يعني فاعلية هذه الكيان الجديد، إذ إن مسألة الفاعلية تحددها إرادات الدول الأعضاء والسياقات السياسية التي تعيشها، لا سيما أن طرفاً من أطراف الثلاثي مثل ليبيا لا يزال يبحث عن حسم وضعه السياسي الداخلي والخارجي، نتيجة عدم اتفاق الفرقاء فيه حتى الآن على شكل الدولة وطابعها ومشروعها.

ثانياً، مسار الحد الأدنى من الفعالية، تحافظ فيه هذه القمم الثلاثية على طابعها التشاوري، والتي يمكن أن تشهد بعض مظاهر الفعالية في تنسيق مواقف أو سياسيات أمنية أو اقتصادية محدودة، إلا أنها لن تشكل في هذا السيناريو إضافةً كبيرةً أو تحولاً جذرياً في المنطقة، كما قد تفتر جدواها ودوريتها مع الأيام، لا سيما أن ارتباط التكتل الثلاثي بالرئيسين تبون وسعيّد سيكون أمام تحدي إعادة انتخابهما في خريف هذا العام. فالمشروع، إذاً، ليس مرتبطاً فقط بمدى إرادة أصحابه، ولكن بالظروف السياسية التي تعيشها الدول الأعضاء فيه. وأخيراً، مسار ثنائي، تظهر فيه النواة الصلبة للمشروع، وهي الثنائي التونسي-الجزائري، وهو المسار الأكثر احتمالاً، حيث تطابق شديد في وجهة نظر الجانبين تجاه العديد من الملفات الإقليمية، وعلاقات شخصية قوية بين الرئيسين سعيّد وتبون تجعل من تماسك هذا المشروع إمكانية قوية في ظل وجودهما في السلطة. وضمن هذا المسار يمكِن أن تحقق خطوات تسهيل حرية الأفراد والبضائع بين البلدين مكاسب للطرفين، لا سيما تونس. إلى جانب تقوية موقعهما التفاوضي في مواجهة الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك سيكون على حساب المشروع المغاربي الكبير المُجمَّد منذ ثلاثة عقود، والذي يمكن أن يشكل الحلّ الوحيد والأنسب للمشكلات المعقَّدة في المنطقة على مختلف النواحي.