غداة تدشينه، انتشرت صور لعشرات السوريين المشاة في “نفق المواساة” المخصص للسيارات، فيما بدا كأنه احتفاءٌ منهم بالنفق الجديد في مدينة دمشق بعد يوم من انتشار صور الاحتفال الرسمي به. كان ينقص فقط أن يشارك الأسد شخصياً في التدشين لكثرة ما نال النفق من اهتمام في الأيام القليلة التي سبقت وتلت تدشينه، وكان نشر صور له “أي للنفق” دلالة على الحفاوة وإن شابتها سخرية من هنا أو هناك.

على الجسر الذي يعلو أحد مداخل النفق نقراً: “ويبقى الياسمين أبيضاً مهما خانته الفصول”. هذه العبارة مثلاً أثارت سخرية واسعة بسبب التنوين في كلمة “أبيض” الممنوعة من الصرف، ولعل الأطرف من ذلك وجود لوحة ضخمة على واحد من جدران النفق مكتوب عليها: “الفل يبدأ من دمشق بياضه”، وغير بعيد عنها لوحة أخرى منصرفة عن الأزهار إلى ما هو أهمّ وأبقى، هذا نصّها: “والدهر يبدأ من دمشق.. وعندها تبقى اللغات وتُحفظ الأنساب”!

باللافتات على مداخل النفق وجدرانه، وبالتغطية الإعلامية التي رافقته، بدا كأن الأمر يتعدّى افتتاح نفق طوله 525 متراً لا أكثر، ليكون بمثابة إنجاز وانتصار يحققهما الأسد. الاحتفال بتدشين منشآت أقلّ أهمية دأبت عليه السلطة منذ عقود، لتصوِّر قيامها بأدنى واجباتها الخدمية كأنه إنجاز يُحسب لها، إلا أن تلك السوابق لم يكن لها المغزى الحالي لجهة القول أن شقّ النفق يثبت تعافي الأسد من الحرب، رغم ما يقوله إعلامه عن الآثار السلبية للحصار الدولي الذي يمنع إعادة الإعمار.

هناك معارضون سخروا من الحدث وما أُحيط به، وهناك موالون أيضاً سخروا بدرجة أخفّ ولأسباب تتعلق بمعاناتهم المعيشية التي لا يريدون أن يُغطّى عليها ببهرجة توحي بأن الوضع على ما يرام. لا نعدم بينهما الذين استغلوا المناسبة لتوجيه التحية لمدير مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية التي نفّذت مشروع النفق، اللواء رياض شاليش، ولا نعلم ما إذا كان الأخير هو نفسه “المدير التاريخي” للمؤسسة وابن عمة بشار الأسد، وكان قد ذكّر السوريين بنفسه الصيف الماضي عندما طالب ابن خاله إما باتخاذ قرارات اقتصادية جريئة “تُخرس” محتجي السويداء أو أن يضربهم بيد من حديد.

لكن، خارج التسييس، لا يُستبعد إطلاقاً أن يكون بعض الذين ذهبوا لرؤية النفق والتقاط صور فيه أو إلى جانبه هم أناس مدفوعون إلى رؤية منشأة ما، بصرف النظر عن أهميتها، بعيداً عن أخبار الحرب والبؤس التي أنهكتهم. والبعض من هؤلاء ربما ذهب لمشاهدة النفق بفضول بريء، وانتابه سرور عابر برؤية ما هو جديد، وهو يتمنى في قرارة نفسه أن يأتي الاستقرار والإعمار، من دون أن يربط ذلك كله “في تلك اللحظة” بخريطة طريق سياسية لتحقيق ما يتمناه.

وبعد انحسار ضجة الافتتاح، ربما تأخذ صور جديدة للنفق طريقها إلى صفحات لا تُحصى لكثرتها على وسائل التواصل، واهتمام مديريها ومتابعيها منصبّ على نشر صور لأماكن سورية عموماً، أو لمدينة أو منطقة بعينها. التكاثر الملحوظ للصفحات المذكورة يدلّ على زيادة الإقبال عليها، ويمكن لأي متصفح عجول ملاحظة ما تحظى به من تفاعل واسع عابر للاصطفافات السياسية للمتابعين، خاصة عندما لا يكون ثمة موضوع سوري ساخن يحظى باهتمامهم.

من طرائف تلك الصفحات أيضاً تكرار كليشيهات تمتدح الأماكن التي تظهر في الصور، حتى إذا كانت مجرد لقطات عادية لشوارع أو أبنية ليس فيها أي شيء مميز، وليس لها قيمة تاريخية أو أثرية. يمكن مثلاً مشاهدة صورة عامة لمدينة دمشق ليلاً مع تعليق مرفق بها من قبيل: “هذه ليست باريس أو برلين، هذه دمشق”. وغاية الشرح أنها لا تقلّ جمالاً عن مدن عالمية شهيرة، لتأتي تعليقات المتابعين فتثني على جمال الصورة، وتتأسف على انقضاء زمنها الجميل إذا كانت تعود لزمن مضى، حتى إذا كان قبل عقود قليلة تُنتقد عادة عند الخوض في السياسة. بل إن التعبير عن الحنين إلى ذلك الزمن لا يوقفه لدى البعض كون الصورة المنشورة رديئة وأمينة لسيئاته وتردّي خدماته وعمرانه، مع التذكير بعدم انتماء أصحاب هذا النوع من الحنين إلى لون سياسي واحد فقط.

الحنين لا يقتصر على اللاجئين خارج سوريا، حيث يسهل تأويله ببعدهم عنها. فالمقيمون في سوريا نفسها صاروا في حكم هؤلاء، بما أن سوريا مقسَّمة إلى سوريات أربع أو خمس. فحلب مثلاً بالنسبة للمقيم في إدلب تحت سيطرة الجولاني ليست أقرب إليه إلا نظرياً من لاجئ في بلد آخر بما أن الاثنين غير قادرين على الذهاب إليها، وهو ما ينطبق حتى على المقيمين في ريف حلب الشمالي وجزء من ريفها الغربي الخارج عن سيطرة الأسد. ويجب ألا ننسى ملايين النازحين في مختلف السوريات، وقسم من هؤلاء يتابع الصفحات المذكورة ليُبقي ذاكرته متصلة بمكانه الأصلي.

سيكون من الإجحاف التوقف عند ربط الحنين بالماضي، وكأن أهله أصحاب هوس به. الأقرب إلى الواقع أن نسبة كبرى تعبّر بهذه الطريقة عن رفضها الواقع الحالي المتردّي، حتى إذا كانت العقود السابقة على الثورة متردية بدورها وهي التي أوصلت الحال إلى ما وصل إليه. والنسبة ذاتها تعبّر بهذا الحنين عن توق إلى مستقبل أرحب من الإقطاعيات وإمارات الطوائف التي تعيش في كنفها، ومهما قيل عن الانقسام السوري وتجذّره فإنه لا يجعل من الأمر الواقع الحالي طبيعياً بالنسبة للخاضعين له. فالسوريات الخمس الحالية هي كانتونات بلا دولة جامعة كما هو حال البلدان اللامركزية، وبلا حرية تنقّل، أي أنها بمثابة سجون كبيرة لما تبقّى من سكانها الأصليين وللاجئين إليها.

تأتي تعبيرات السوريين عن توقهم للعيش في بلد طبيعي عبر تفاصيل من نوع نفق هنا وجسر هناك، وبناءٍ قد يكون أقرب إلى الخرابة في مكان آخر، لأن هذا هو السبيل الوحيد لإظهار مشاعرهم التي يصعب ترجمتها في السياسة. إنهم منقسمون في السياسة والحرب أكثر مما تقرّب بينهم عواطفهم المتشابهة إزاء ألبومات صور بلدهم، وهم في مختلف مناطق تواجدهم غير قادرين الآن على إيصال أصواتهم وتقرير مصائرهم. إنهم رمزياً في، نفق المواساة التي يتوسّلونها بالصور، على أمل ألا تصبح ذاكرتهم من الماضي فحسب.