اليوم لا يخفي بعض الكتاب الجدد ويعترف بأنه لم يقرأ رواية واحدة في حياته (أ ف ب)

يولد كثير من الروائيين في العالم العربي والمغاربي بشواربهم

وأنا أشارك في معرض الكتاب في دورته الـ 26 الذي يعتبر التظاهرة الثقافية الأهم على مدى السنة الثقافية في الجزائر، فوجئت بظاهرة تصاعد لافت لعدد كتاب الرواية من الذكور والإناث، إلى هنا الأمر عادي جداً، فكل زمان له أقلام تطلع وتسطع، قلت لا بأس فالكثرة ضرورية، إلى هنا الأمر عادي جداً، لكن أن تجد بعض من يغامر في الكتابة الروائية لم يقرأ رواية واحدة في حياته الثقافية، فهذه هي الكارثة الأدبية التي تمشي على أقدامها! بل إن بعض الكتاب يفتخر بأنه لا يقرأ لا للكتاب الجزائريين ولا للعرب ولا للأجانب.

جاءتني “روائية” تلميذة في السنة أولى ثانوي، وقد كتبت ثلاثية في حوالى ألف صفحة، أهدتني الرواية شكرتها وهنأتها وتمنيت لها النجاح والتألق، قلت في نفسي وأنا أتصفح الرواية، العبقرية لا عمر لها، لكن لا عبقرية من دون قراءة. فسألتها ماذا قرأت من الكتاب العرب والأجانب؟ وما هي النصوص الأقرب إليك التي ربما أثّرت فيك وفي تجربة الكتابة لديك مبكراً؟ بوضوح وبرودة دم وثقة، قالت لي، قرأت “الفضيلة” لـ “المفنلوطي”، هكذا “المنفلوطي”، وحين عدت إلى البيت وجدتها تملأ الشاشة وتتحدث بكل ثقة.

نعم يولد الروائى  والمغاربي بشواربه!

أمام تفشي الرداءة واستعراض عضلاتها في منتصف النهار لا بد من القول إننا أمام لحظة اغتيال الرواية، ومن خلف ذلك اغتيال قارئ الرواية الذي ظل وفياً لهذا الجنس الأدبي منذ ربع القرن الأخير تقريباً.

في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى ثمانينيات القرن الماضي كان الكتاب يتنافسون على الشعر، فالكاتب مهما كان إلا ويبدأ مسيرته بكتابة الشعر، من الفيلسوف مروراً بالناقد والمؤرخ وصولاً إلى الفقيه، كل كاتب يبدأ مسيرته بخجل وخوف وتردد وهو يقدم على كتابة الخاطرة ثم القصيدة أو القصة القصيرة، نصوص للتمرين على الكتابة الإبداعية حين يشتد عوده، كل ذلك كان يحدث في عملية الإنصات بين الأجيال، السماع فضيلة في الأدب، في السماع بمفهومه الفلسفي تتبادل الأجيال التجارب في صراع جمالي وفكري صحيين، اليوم يبدأ الشاب أو الشابة، المراهق أو الطفل، كتابة نصوص أطول سبع مرات مما قرأه من نصوص.

نحن لا نريد أن ننصب محكمة للأقلام الجديدة، ولكن علينا، ومن دون وصاية ولا أبوية، أن ندق ناقوس الخطر حين نشعر بأن الرواية في خطر حتى نحمي الأقلام الجديدة الجادة من الضياع داخل الكم المتراكم.

كان الجيل الذي سبقنا صارماً معنا، وفي صرامته هذه كان يريدنا أن نكون أفضل منه.

اليوم لا يخفي بعض الكتاب الجدد، وللأسف، ويعترف وبصراحة فجة بأنه لم يقرأ رواية واحدة في حياته.

 

لماذا هذه الجرأة ولماذا هذا التسرع وهذا التهافت على الكتابة الروائية بالخصوص من دون مراجعة ومن دون تردد أو خوف من قبل كثير من الكتاب الجدد؟

أعتقد بأن سبب هذا التهافت الخطر يعود لظاهرة هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على الفضاء الثقافي، حتى أصبح هو من يصنع سيكولوجيا المبدعين وبالأساس الكتاب، ويصنع وهم النجاح، وسائل التواصل تلك التي ساوت بين الجميع، فهي تمنح المساحة نفسها للمبتدئ وللمكرس من الكتاب، للعاقل وللمجنون من العامة، وهذا الوضع هو الذي خلط الأوراق وجعل الحقل الأدبي الروائي يعيش حالاً من الفوضى غير المسبوقة.

الكثرة، كثرة الكتاب والكتابة، لا تضر ولا تخيف لكن هذه الرداءة الغالبة في الكثرة قد تغتال أقلاماً مميزة التي هي رهاننا الروائي مستقبلاً.

صحيح بعض الدول الأوروبية، كفرنسا مثلاً، تصدر سنوياً أزيد من ألفي عنوان في الرواية، إذا ما أخذنا كل ما يصدر في الدخول الأدبي الكبير في الخريف ودخول رأس السنة وأعياد الميلاد ودخول العطلة الصيفية، كل دخول أدبي له خصوصيته في النشر وفي طبيعة اختيار النصوص الأدبية بحسب ما يمليه أفق انتظار القارئ، فما يطلبه القارئ في سبتمبر (أيلول) ليس هو ما يطلبه القارئ في نهاية السنة ومطلع السنة الجديدة وليس هو ذلك القارئ الذي يستعد للعطلة الصيفية بسلة كتب معينة… لكل فصل قراءته وكتبه وجمالياته.

الكثرة ليست خطراً على الكتابة الأدبية، بل قد تكون حالاً إيجابية تسمح بفسحة للجميع، بمساحة حرة لتعبير الجميع، لكن هذه الكثرة يجب أن تكون تحت عيون مجتمع ثقافي جاد وصارم وتحت أضواء جامعيين متيقظين ومتابعين بامتياز وفي حضور مجتمع إعلامي واعٍ لصناعة جيل جديد من الكتاب الروائيين.

الكثرة في فرنسا ترعاها منظومة نشر متكاملة ومحترفة، فلكل دار نشر فرنسية شأنها شأن دور النشر الأوروبية عامة لجنة قراءة ولها مدققون لغويون ولها محررون أدبيون يقومون بمهماتهم بصورة محترفة كي يطلع الكتاب في صورة مقبولة ومحترمة للقارئ، لهذا فالكتاب المنشور في هذه الدور مهما كان مستواه فيه قليل أو كثير من قيم احترام القارئ، وهذا لا يعني أن الألفي رواية التي تصدر في فرنسا مثلاً هي جميعها جيدة، أبداً، فهناك نسبة كبيرة مما ينشر يذهب بعد ثلاثة أشهر يقضيها على رفوف مكتبات البيع إلى مطحنة الكتب Le Pilon، ومطحنة الكتب هي أكبر رحمة بالقارئ، وهي في الوقت نفسه تسمح لعناوين أخرى بالظهور من دون التغطية عليها من قبل الكثرة الرديئة.

أما عندنا في العالم العربي والمغاربي، فإننا نصدر روايات بطريقة عشوائية وغريبة، فقليلة هي دور النشر التي لها لجنة قراءة محترمة، ونادرة هي دور النشر التي تملك محرراً أدبياً، بل مهنة المحرر الأدبي لا يؤمن بها العقل الناشر في العربية لأنه يعتبر ذلك تدخلاً في النص حتى لو كان هذا الأخير مشوهاً.

لقد أصبحت عيون الجميع متجهة نحو تاريخ إقفال باب الترشح للجوائز، الناشر والكاتب على حد سواء، مما يجعل مواعيد النشر موقتة على تواريخ الجوائز لا على طبيعة علاقة القارئ بفصول القراءة.

إن الجوائز الأدبية العربية، وهي ضرورة لإنعاش الأدب، ما في ذلك شك، بل هي قليلة مقارنة بما في الدول الأوروبية من عدد الجوائز، وعلى قلتها عندنا فقد أصبحت معوقاً مربكاً بدلاً من أن تكون عاملاً للتحفيز على القراءة وعلى تجويد الكتابة وعلى التنافس الأدبي الراقي، إذ أضحت فرصة لبعض دور النشر لممارسة ابتزاز الكتاب الشباب، بخاصة الذين يحلمون بأن تسلط الأضواء الإعلامية عليهم لحظة فوزهم، وفي هذا الحلم يصبح الكاتب طريدة سهلة للناشر، وفي ظل مرض اللهفة العامة على الجوائز لا يتردد الكتاب الشباب الجدد في أن يدفعوا مقابل نشر كتبهم ورواياتهم شرط ترشيحها للجوائز.

كنا ننتظر مقاومة الرداءة الأدبية تأتي من الجامعة، فهي المنصة العاقلة والوازنة، وإذا بهذه الجامعة قد انزلقت هي الأخرى في هذا المأزق حتى أصبحنا نقرأ أطاريح جامعية (ماجستير ودكتوراه) حول هذه النصوص المشوهة.

وأسهم أيضاً الإعلام الشللي المرئي والمسموع في تكريس هذه الرداءة.

صحيح أن الكتاب الجيد لا بد من أن يصل إلى القارئ الجيد، هذه المقولة تنطبق على بلدان فيها سلسلة الكتاب تقوم على قاعدة علمية واقتصادية وتجارية مدروسة ومهنية، لكن في عالمنا العربي والشمال أفريقي، فإن هذا الوضع يجعل الجيد يختنق تحت الطبقات المتراكمة للسيئ والرديء، مما يعرض قراءة الرواية التي ازدهرت منذ مطلع الألفية الثالثة للتراجع ويهدد قارءها بالانقراض أو الانسحاب، وهو ما لاحظناه خلال معارض الكتاب هذه السنة، فما عاد القارئ ينتظر الروايات بذلك الشوق لأنه هو الآخر أدرك لهفة الجميع الناشر والروائي على الجوائز والجري وراء الشهرة.

ما أتوقعه في العشرية المقبلة، وبناء على حال التهافت على كتابة الرواية وتراكم الرديء منها، هو أن القارئ العربي والمغاربي سيضع مسافة بينه وقراءة الرواية، وسيتجه نحو قراءة الكتاب الفكري، وبدا هذا الأمر واضحاً في معرض الجزائر الدولي للكتاب.