البطولات تصنع التاريخ والوثائق تؤرخ بصمة قرارات وسلوكيات القدامى من رجالات تاريخ وسياسة ودين وعسكر وغيرهم.
وتزخر مكتبات العالم بوثائق متعددة تعود لأزمنة موغلة في القدم وفي شتى المجالات، إضافة لاحتفاظ الدول ضمن مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية بوثائق سرية قد يكشف عن بعضها، بينما يبقى الآخر طي الكتمان.
فبعض الدول الغربية تكشف بعد مرور 50 عاماً على حدث معين وترفع الستار عن وثائق تخص بعض المجريات التي مرت عليها أو خاضتها، وتضعها بين أيدي الرأي العام المهتم، بينما لا توجد هذه الثقافة في الدول العربية، إذ تبقى الوثائق بخاصة السياسية والعسكرية ومنها اقتصادية، حبيسة الأدراج، أو رهينة لدى بعض الأشخاص وقد تموت بموتهم، هذا إن كانت تعتمد على ذاكرتهم.
أما إذا كانت وثائق مكتوبة أو مصورة، فقد تخرج يوماً ما عبر مذكرات شخص معين أو تسريب أو تتعرض للسرقة أو تتلف بفعل فاعل أو الزمن نفسه.
أسرار
وتعد سوريا من أكثر الدول العربية تحفظاً في ما يخص سياستها وما يرتبط بها من معلومات ووثائق لبعض الأحداث التي شهدتها وتشهدها، وهذا ما يكون لها شخصية شبه غامضة بين الدول، فإذا أراد الباحث أن يعرف معلومة معينة عن هذا البلد، عليه أن يجهد ويكد ويبحث مطولاً وربما لسنوات كي يصل إلى معلومة قد تفيده وقد لا تفيده، بخاصة في الشق السياسي والعسكري.
ففي التاريخ الحديث المعاصر، يؤخذ على سوريا تكتمها على وثائق “حرب أكتوبر” أو “حرب تشرين “، حتى مع تلك اللجان التي أنشئت داخل البلاد لفهم ومعرفة ما حدث بالضبط وتقييمه لأخذ العبر والدروس، فالأشخاص والمؤسسات المعنية بتقديم الوثائق لم تتجاوب مع طلب اللجان، وقد يكون خوفاً أو أمراً.
لكن من جهة أخرى، خرجت إلى العلن بعض المذكرات لشخصيات كانت قيادية وفاعلة في الحرب مثل وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس، الذي أصدر مذكراته في خمسة أجزاء أسماها “مرآة حياتي”، وفيها تحدث للمرة الأولى عن “حرب تشرين” وخفاياها. كما يوجد في سوريا صرح كبير يدعى “بانوراما” وفيه مقتنيات عسكرية من “حرب تشرين” للجيش الإسرائيلي محطمة وأخرى لآليات شارك فيها الجيش السوري في تلك الحرب، إضافة إلى صور بانورامية تحكي “حرب تشرين” وأحداثاً تاريخية أخرى من زمن مملكة إيبلا كوثائق مصورة تحكي الماضي.
مرجعيات
ولكن البحث لا يقف على مجال معين، فكل الدول تخصص لها مؤسسات تعنى بحفظ الوثائق والأرشيف الخاص بها عبر سنوات وعقود، وتعمل على الاهتمام بها وتقديمها للباحث والطالب والمهتم في معرفة معلومة معينة، وذلك من خلال إحداث مراكز كمرجعيات للوثائق والمخطوطات والأدلة التاريخية في مختلف المجالات، كالمكتبات الوطنية الكبرى التي تضم بين طياتها الوثائق والكتب والمؤلفات والدوريات والمراجع والمخطوطات وغيرها من أوعية المعلومات في المجالات كافة الثقافية والأدبية والعلمية والاقتصادية، وكل ما يتصل بها.
وفي سوريا تتوكل هذه المهمة مكتبة الأسد الوطنية التي تقدم للباحث عن المعلومة مراجعها بمختلف أشكالها الورقية والسمعية والبصرية.
وعن هذا قالت سارة التي عملت على تقديم رسالة الدكتوراه الخاصة بها في قسم التاريخ والتي تتحدث عن فترة محددة من وجود الفرنسيين في سوريا، قائلة “لقد استعنت بالوثائق الموجودة في مكتبة الأسد من صحف وكتب ومذكرات وأفلام ضوئية تخص تلك الحقبة من الزمن”، ولكن هذا لم يف وحده بالغرض، فقد اضطرت للبحث عن شهادات حية لبعض الأشخاص المعمرين الذين عاصروا تلك الحقبة”، وكانت تارة تجد بعضهم وتجمع شتات بعض المعلومات وتارة أخرى تصل متأخرة بعد أن مات الشخص أو أن ذاكرته محت أجزاء كثيرة مما عايشه.
توثيق منقوص
ويعاني الصحافيون خلال إعدادهم بعض التقارير والتحقيقات من الوصول إلى وثائق خاصة بإحصاءات موضوع محدد، فعلى رغم وجود مكتب مركزي للإحصاء في سوريا، إلا أن آلية عمله محددة ببعض المجالات كالسياحة والتجارة والتعليم والصحة وغيرها، لكن هناك تقارير تحتاج لمعرفة كثير من الأرقام لتبنى عليها بعض الاستنتاجات أو لتطرح أسئلة أكثر عمقاً، بالتالي تسهم بطريقة غير مباشرة في إيجاد حل.
فإذا أراد صحافي تضمين تقريره ببعض الإحصاءات، فإنه يتوجه إلى الجهة المعنية بذلك وغالباً يكون الرد برفض الطلب، وإذا تم قبول الطلب فإن عدداً كبيراً من الإحصاءات مبني على عمل فردي قد لا يغطي كامل الموضوع، وربما يكون تقديرياً يفتقر إلى الدقة.
توثيق الحرب
مع اندلاع الحرب في سوريا انقسم التوثيق لجبهتين، موالية ومعارضة.
فقد أنشئ المركز السوري للتوثيق في دمشق، الذي بدأ عمله في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، وكان مؤسسوه وأعضاؤه صحافيين وإعلاميين سوريين، قاموا على مدى سنوات بجمع المعلومات المتعلقة بالأحداث التي جرت في سوريا عبر مصادر عدة، ومقاطعتها مع أخبار مراسلي المركز في كل المحافظات السورية، ثم نقلها وتحديثها على مدار الساعة، إذ ضم المركز إضافة لنشرته اليومية باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، قائمة بكل الضحايا الذين قضوا خلال الأحداث السورية من مدنيين وعسكريين وشرطة وأمن بدءاً من 15 مارس (آذار) 2011.
وعلى الجبهة الأخرى، كانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان “SNHR”، كمنظمة حقوقية ترصد وتوثق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، وتحشد الطاقات والجهود في إطار الحد منها، والإسهام في حفظ حقوق الضحايا، وتعزيز أوضاع حقوق الإنسان.
ويعنى المركز السوري للعدالة والمساءلة كذلك بجمع وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، كذلك قامت الحكومة السورية بإحداث وزارة خاصة بالمفقودين خلال الحرب باسم وزارة المصالحة الوطنية.