أمام عشرات الآلاف من مناصريه، وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤكداً أنّ ما يجري في غزة مهمٌّ لتركيا مثل الذي «يجري في أضنا»، فهذه المدينة بحسب كلامه لم تكن إلّا جزءاً من دولته قبل مئة عام فقط.
جاءت صورة أردوغان مرتدياً الكوفية تَحوُّلاً كبيراً في الموقف التركي من الحرب في غزة بعد بدء عملية «طوفان الأقصى»، فالرجل الذي بدا أنّه يريد لعب دور الوساطة بين إسرائيل وحماس متبنياً موقفاً أقرب للحياد، انتقل تماماً إلى أخذ موقفٍ مناهضٍ للدور الغربي، إذ لم يتوقف عند اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة، بل قال إنّ حماس حركة مقاومة لا تنظيمٌ إرهابي.
وكان الرئيس التركي قد طالب، في أول موقف له بعد عملية «طوفان الأقصى»، الطرفين بضبط النفس وتجنب الخطوات التي من شأنها تصعيد التوتر، كما أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره الفلسطيني محمود عباس، وأخرى مع نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ قام خلالها بتعزيته بضحايا العملية المدنيين ورفض استهداف المدنيين بأي صفة.
وحاولت تركيا في الأيام الأولى تنسيق موقفها مع دول عربية، مثل السعودية ومصر، من أجل الخروج بموقف أقل راديكالية من جهة تأييد حماس، ولحماية نفسها من الحرج عبرَ تبني الموقف الرسمي العربي، بعد اتصالات أجراها وزير الخارجية حقان فيدان مع نظيره المصري سامح شكري.
في الوقت ذاته، أشار تقرير صحفي نشره موقع المونيتور، يوم الأحد 22 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى أنّ الحكومة التركية طلبت «بلطف»، مباشرةً بعد عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول، من قادة حماس الموجودين على أراضيها ومن بينهم إسماعيل هنية، مغادرة تركيا «لأنها لم تعد تستطيع حمايتهم في ظل الظروف المستجدة»، وهو ما دفع تلك القيادات بحسب التقرير إلى الانتقال إلى العاصمة القطرية الدوحة. من جهتها، نفت الرئاسة ببيان رسمي هذه الأنباء التي نقلها تقرير المونيتور، لكنّ تقارير صحفية تركية لاحقة عادت وأكدت المعلومة من مصادر مقربة من الرئاسة.
عبّرت مجمل تلك المواقف المعلنة والاتصالات غير المعلنة عن حذر تركي من اتخاذ موقف يُغضب إسرائيل والغرب، وذلك بعد العملية التي نفذتها حماس وأدت إلى مقتل 1400 شخص معظمهم من المدنيين وخطف مئات آخرين، وفي وقتٍ كانت تركيا قد بدأت بتصحيح علاقاتها مع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد موافقتها على انضمام السويد إلى الحلف.
وأشارت تقارير صحفية تركية إلى أن «طوفان الأقصى» تسبَّبَ بتعليق زيارة وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار إلى إسرائيل في السابع من تشرين الأول، وأنّ المفاوضات بين الطرفين بخصوص نقل الغاز الإسرائيلي من البحر المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا كانت قد وصلت إلى مراحل متقدمة، في ظل تقارب بين تل أبيب وأنقرة تَوَّجتهُ زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة في آذار (مارس) الماضي، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ 15 عاماً.
وقد أتت هجمة كتائب القسّام في وقت كانت تركيا تتحضَّر للاحتفال بمئوية إعلان الجمهورية التركية، وهي مناسبة كان الحزب الحاكم يعوِّل عليها لعرض إنجازاته تحضيراً للانتخابات البلدية المقبلة. وهو ما أربك على ما يبدو عدداً من الخطط، إذ لم يتم الاحتفال على نطاق واسع بهذا العيد كما كان مخططاً.
بناءً على موقفها الدبلوماسي من الأزمة، حاولت أنقرة أن تلعب دوراً وسيطاً لحل الأزمة أو تخفيفها، ففي 16 تشرين الأول اقترح وزير الخارجية التركي، حقان فيدان، تطبيق صيغة الضامنين للجانب الإسرائيلي والفلسطيني، طارحاً بذلك مبادرة تركية لوقف تدهور الأوضاع في غزة، وعلى الرغم من أنّ نقاشاً دولياً جدياً لم يحصل بخصوص هذا المقترح، إلّا أنّ أنقرة سجلت من خلاله حدوداً جديدة لما يمكن أن يكون عليه دورها في المسألة الفلسطينية.
من جهتها، اتخذت بعض أحزاب المعارضة مواقفَ أكثر تشدداً من إسرائيل كما الحال مع التصريحات التي أطلقها أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل، وكمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري، والتي انتقدت تردد الموقف الرسمي التركي وعدم تبني الرئيس التركي مواقف أكثر حزماً من القصف الإسرائيلي على غزة.
جاء كل ذلك في الوقت الذي تستعد فيها الأحزاب التركية للتحضير لحملاتها الانتخابية قبيل الانتخابات البلدية، التي من المقرر أن تجري في شهر آذار (مارس) من العام المقبل. بالمقابل، فإنّ الموقف الرسمي حاول الحفاظ على موقعه الوسطي خلال الأيام الأولى للعمليات العسكرية، حتى أنّ ولايات تركية مثل غازي عنتاب أصدرت تعليمات بمنع أي مظاهرات أو تجمعات أو رفع الأعلام بما يشمل الأحداث الرياضية، ولم يدعو الحزب الحاكم إلى أي مظاهرة منددة بالقصف على غزة في الأيام الأولى من التصعيد، في خطوة اعتُبرت نوعاً من ضبط للشارع التركي كي لا تقع الحكومة في حرج أمام أي مظاهرات حاشدة مُندِّدة بإسرائيل.
كل ذلك تغيَّر مع القصف الذي تعرض له المستشفى الأهلي المعمداني في مدينة غزة ليلة 17 تشرين الأول (أكتوبر)، إذ أدى مقتل أكثر من 500 مدني في هذا القصف إلى انتشار واسع للغضب في الشارع التركي، وخروج مظاهرات مُندِّدة بإسرائيل في الليلة ذاتها في عدة مدن تركية من بينها العاصمة أنقرة.
من جهتها فقد استقبلَ المسؤولين الإسرائيليين مبادرة الوساطة التركية ببرودٍ شديد، إذ اعتبرتها سفيرة إسرائيل لدى تركيا إيريت ليليان عرضاً في غير وقته، وأضافت السفيرة خلال إفادة عبر الإنترنت أمام مجموعة من الصحفيين في الثامن من تشرين أنّ «القيادي البارز في الحركة صالح العاروري يُشاهَد أحياناً في فعاليات في تركيا»، في إشارة إلى أنّ تركيا غير قادرة على لعب دور الوسيط وهي تستقبل قيادات من حركة حماس، مُضيفةً أنّ إسرائيل كانت تتوقع مزيداً من التعاطف من جانب تركيا التي تعاني من هجمات مسلحة منذ عقود.
يبدو أنّ تصاعد الغضب في الشارع التركي، بالإضافة إلى المزاودة من قبل أحزاب معارضة قبيل الانتخابات البلدية في الموقف من ما يجري في غزة، والبرود الذي استقبلت به إسرائيل والدول الغربية العرض التركي، قد أدت مجتمعةً إلى هذا التحول في الموقف الرسمي التركي؛ فانتقل من الحذر في اتخاذ موقف واضح من الحرب الجارية في غزة لصالح أي من الأطراف، إلى اتخاذ موقف متشدد من الجرائم الإسرائيلية وإعلان دعم حركة حماس بشكل علني، وحتى انتقاد من يساوي بين الحركة وإسرائيل؛ في إشارة إلى الموقف الذي اتخذته ميرال أكشنار حين قالت إنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قاتل في مقابل اعتبارها حركة حماس حركة إرهابية.
كما شكّلت الاتصالات التي لم تنقطع عملياً بين الحكومة التركية، وعلى رأسها أردوغان، مع قيادات حركة حماس محاولةً للدخول ولعب دور وساطة في مسألة تسليم المخطوفين، إلى جانب قطر التي تلعب الدور الأساسي في هذا الملف. كما أشارت تقارير صحفية تركية إلى لعب كل من وزير الخارجية حقان فيدان من خلال اتصالاته الرسمية، وإبراهيم كالن رئيس المخابرات التركية (MIT) من خلال اتصالات سرية، دوراً مهماً في هذا الملف.
وفي حين لم يَبدُ أنّ أردوغان سيُحقق أي مكاسب من مواقفه الحذرة دبلوماسياً في مقابل المتاعب التي كان من الممكن أن يواجهها محليّاً، فإنّ اتخاذه هذا الموقف المتشدد من إسرائيل، الذي أدى إلى سحب تل أبيب دبلوماسييها من تركيا، سيحقق له مكاسب في الانتخابات المقبلة من خلال زيادة شعبيته في تركيا، في محاولة لاستعادة مشهد استقباله من أعداد كبيرة من الجماهير التركية لدى عودته من مؤتمر دافوس في سويسرا عام 2009، والذي شَهِدَ هجومه الشهير على رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، وهو ما حظي بشعبية كبيرة لدى الجمهور التركي الذي تجمَّعَ بالقرب من المطار في اسطنبول، ليغتنم أردوغان الفرصة ويخطب فيهم قائلاً: «حين نتخذ موقفاً، نحن لا نهتم بردود الفعل التي ستواجهنا من هذه الدولة أو تلك، بل هم الذين عليهم أن يتساءلوا ماذا يعني ألّا تكون هناك تركيا».