منذ بداية الحرب الإسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة، بدأ محللون وسياسيون وعسكريون إسرائيليون يتحدثون عن ضرورة توجُّه الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، ريثما يتسنّى للجيش الإسرائيلي إنهاء حركة حماس ردّاً على عملية طوفان الأقصى. وليست هناك تصريحات رسمية من جهات إسرائيلية رفيعة المستوى تتحدث عن خطة إسرائيلية مُعلَنة لتهجير الفلسطينيين إلى مصر، باستثناء ما قاله متحدث عسكري إسرائيلي هو ريتشارد هيخت في اليوم الرابع للحرب عن أن «معبر رفح لا يزال مفتوحاً»، وأنه ينصح «أي شخص يمكنه الخروج بالقيام بذلك». سيتراجع هيخت عن تصريحه لاحقاً، ثم سيقول أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، إنه «لا توجد أي دعوة إسرائيلية رسمية» بهذا الشأن. لكن مع ذلك، يبدو واضحاً أن المسألة مطروحة فعلاً بصيغ متنوعة، وأنها تُشكِّلُ العنوان الأبرز للتحرك السياسي المصري والأردني بخصوص الحرب المستمرة في غزة.
سياقات مشتركة بين البلدين
يشترك البلدان في أن لديهما اتفاقيات سلام قديمة مع إسرائيل، وحدوداً مشتركة مع الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بالنسبة للأردن وفي غزة بالنسبة لمصر. وقد جاءت اتفاقيات السلام تلك في محاولة لإيجاد حلول لجملة من الملفات التاريخية الشائكة والمتشابكة بين البلدين وإسرائيل، من بينها مصير الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وتمثيلهم ودور البلدين في مستقبل الفلسطينيين السياسي.
علينا أن نتذكّر أن الضفة الغربية كانت تحت الإدارة الأردنية وأن قطاع غزة كان تحت الإدارة المصرية قبل حرب العام 1967، وقد ترك هذا تبعات طويلة المدى بالنسبة للبلدين وعلاقتهما بإسرائيل والفلسطينيين على حد سواء، حتى أن فكّ الارتباط الأردني مع الضفة الغربية لم يحدث بشكل رسمي حتى العام 1988. ويمكن القول إن الدعم المصري والأردني لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولاحقاً للسلطة الفلسطينية بعد قيامها، يرجع في جزء منه إلى أن التوجه العام للبلدين يقوم على أن فلسطين هي شأن الفلسطينيين ومن يمثلونهم سياسياً، وأن البلدين لا يريدان تحمّل تبعات مباشرة لصراع الفلسطينيين مع إسرائيل. في الحقيقة، تُهدّد طروحات تكرار تهجير الفلسطينيين بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء على هذا الصعيد، وهو ما أشار إليه السيسي بوضوح عندما قال في 18 تشرين الأول (أكتوبر) إن «نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء هو نقلٌ لفكرة المقاومة والقتال من غزة إلى سيناء، لتكون الأخيرة قاعدة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل».
يشترك البلدان أيضاً في علاقتهما السيئة بحركة حماس وانحيازهما إلى السلطة الفلسطينية في نزاعها مع الحركة، ويشتركان في طبيعة اتفاقيات السلام التي تجمعهما بإسرائيل في غياب أي سند شعبي في البلدين، وهذا ما تشير إليه بوضوح تلك المظاهرات الضخمة التي تخرج في البلدين مع كل عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين. كما يشتركان في أن العلاقات الدبلوماسية والتجارية والأمنية بين كل من البلدين وإسرائيل لم تتطور أبداً إلى علاقات تطبيع ذات أبعاد شعبية ولو بالحدّ الأدنى، ما يعني أن مذابح كبرى وضربات تهجير تاريخية جديدة في فلسطين لا يمكن أن تمرّ دون ارتدادات كبرى داخل البلدين وتقويض لشرعية النظامين فيهما، فضلاً عمّا ستُلحقه موجة من اللاجئين الفلسطينيين إليهما من ارتدادات اجتماعية وسياسية كبرى.
هذه الاعتبارات المشتركة تقف إلى حد بعيد وراء التنسيق المصري الأردني في التعاطي مع الحرب الراهنة، وهو ما نجده بوضوح في القمة المشتركة بين قادة كل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل أن يتم إلغاؤها نتيجة مجزرة المشفى المعمداني في مدينة غزة.
رفض «السلام الجديد»
تُلقي العوامل المُشار إليها أعلاه بظلّها على موقف البلدين في هذه الحرب، المُتمايز عن مواقف دول عربية أخرى تجمعها اتفاقيات سلام مع إسرائيل مثل الإمارات والبحرين. وبينما كانت كلٌّ من الإمارات والبحرين قد منحت إسرائيل اتفاق سلام دون مقابل يُذكَر، ودون اشتباك سابق يحتاج اتفاقاً لفك تعقيداته، تُواجه كل من الأردن ومصر تحديات معقدة لعلّها كانت السبب وراء الموقف المصري البارد والموقف الأردني الرافض لمشروع «صفقة القرن» الذي طرحه ترامب عام 2019، والذي يمكن اعتباره تمهيداً لاتفاقات السلام الإبراهيمي التي بدأت مع الإمارات عام 2020.
رغم أن صفقة القرن كانت تُقرّ بحق الفلسطينيين في دولة، إلا أنها كانت دولة منزوعة السلاح ومُقطّعة الأوصال، وعاصمتها ليست القدس، وتسلب الفلسطينيين معظم الضفة الغربية وتتحدث عن دور غامض لمصر بشأن مستقبل غزة وأهلها. وبينما كان الموقف الإماراتي أكثر المواقف العربية حماساً للخطة التي اعتبرها «جديّة»، جاء الموقف مصري بارداً عندما اكتفى بدعوة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى «دراسة مُعمّقة» للخطة، فيما جاء الموقف الأردني رافضاً لها على لسان مسؤولين عديدين، وعلى رأسهم الملك عبدالله الثاني.
رفضت السلطة الفلسطينية بدورها على لسان رئيسها محمود عباس صفقة القرن، وأدّى موقفها مع الموقف الأردني، مدعومَين بموقف مصري صار لاحقاً أوضح في تأييده للرفض الفلسطيني، إلى عدم وضع الخطة موضع التنفيذ، بحيث لم يبقَ منها إلّا اتفاقات السلام والتطبيع التي تم توقيعها في العام 2020 مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب تباعاً. وقد كان وراء الرفض الأردني والبرود المصري اعتبارٌ أساسيٌ، هو أن عدم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة سيُجبر البلدين على التعامل مراراً وتكراراً مع حروب ومذابح على حدودهما، وربما ضربات تهجير إلى أراضيهما.
في كل النقاشات التي رافقت صفقة القرن، كان شبح تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن حاضراً، وهو الشبح الذي لا يتردد سياسيون وعسكريون إسرائيليون في الحديث عنه علناً مع كل مواجهة تندلع بين إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإن كان لا يُطرَح علناً بشكل رسمي على لسان مسؤولين إسرائيليين، فإنه محفورٌ في طريقة إنشاء إسرائيل التي ترافقَت مع جريمة تهجير كبرى بحق الفلسطينيين، وفي كل خطاب وسلوك من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين، وفي القلب من ذلك استمرار الاستيطان وإنكار حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فضلاً عن عشرات المشاريع والطروحات التي تضمّنت أحاديثَ عن «وطن بديل» للفلسطينيين في الأردن أو سيناء أو غيرهما.
سيناريو التهجير في الحرب الراهنة
في اليوم الرابع للحرب، العاشر من تشرين الأول (أكتوبر)، قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «مصر لن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب أطراف أخرى»، وفي اليوم التالي نقلت رويترز عن مصدرين أمنيين مصريين أن «مصر تتحرك لمنع نزوح جماعي من غزة إلى شبه جزيرة سيناء». وفي الأردن، الذي شهد مظاهرات ضخمة داعمة للفلسطينيين منذ بدء العدوان، بدا واضحاً أن هذه المسألة باتت تحتلّ حيزاً أساسياً في حراك السلطات الأردنية منذ الثاني عشر من تشرين الأول، عندما حذَّرَ وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي «من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر وترحيل الأزمة إلى دول الجوار»، وهو التحذير الذي كرّره الملك الأردني نفسه في اليوم التالي.
مع تصاعد المذابح الإسرائيلية في غزة، باتت تصريحات القادة والمسؤولين والإعلام الرسمي وشبه الرسمي في البلدين أكثر حدّة، وتتالت الإدانات لإسرائيل وسلوكها، وبدا أن اتفاقيات السلام الموقعة بين البلدين وإسرائيل فاقدة لفعاليتها كقنوات للتأثير والتواصل الدبلوماسي، وحلّ محلّها حراك دبلوماسي نشط من جانب البلدين على المستويات الإقليمية والدولية، يسعى إلى الضغط على إسرائيل أولاً وأساساً بشأن طيّ الحديث نهائياً عن فكرة خروج الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، وثانياً من أجل إدخال المساعدات إلى غزة ومحاولة التوصُّل إلى وقف إطلاق نار لا يزال الجانب الإسرائيلي يرفضه بشدة.
وفي موقفه الصلب ضد طروحات التهجير، يأخذ الأردن في حسبانه أن السماح بتهجير سكّان غزة إلى مصر سيكون له ما بعده في الضفة الغربية، وبالفعل قام مستوطنون بتوزيع منشورات في الضفة الغربية تهدد بـ«نكبة» جديدة، فيما قال وزير الخارجية الأردني قبل أيام إن بلاده ستعتبر أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية «إعلان حرب».
فضلاً عن الرفض الحاسم، شملت الجهود الأردنية والمصرية لإنهاء طروحات التهجير حراكاً دبلوماسياً نشطاً لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، وعدم فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين الراغبين في مغادرة القطاع لتجنّب القصف، وضغطاً مصرياً لربط خروج الرعايا الأجانب من غزة بإدخال المساعدات إلى القطاع بهدف تخفيف الكارثة الإنسانية، التي قد تكون أحد أساليب إسرائيل لدفع الفلسطينيين إلى مصر.
عودة مختلفة لـ«محور الاعتدال»؟
اعتادت مصر خلال العقدين الماضيين أن تلعب دور الوسيط بين حماس والإسرائيليين في ترتيب الهُدن والاتفاقات الإنسانية، إلا أنها تبدو في هذه الجولة وكأنها نفسها تفتقد لوسيط مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة حتى. بدوره، يلعب الأردن دوراً عالي الصوت في المبادرات الدبلوماسية ضمن المجموعة العربية، ما تبدّى في قيادته مشروع قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة لتحقيق «هدنة إنسانية» وإدخال مساعدات إلى قطاع غزّة الأسبوع الماضي. وفي أفق هذه الصورة نجد موقفاً سعودياً انتقل من الإقرار، العلني والمتبادل، بوجود مشروع اتفاق سلام وشيك مع إسرائيل، إلى مشاركة فاعلة ضمن «المجموعة العربية» في الهيئات الأممية بالتنسيق مع الأردن، وإصدار موقف رسمي ضد «التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزّة» يتلاقى مع الهواجس المصرية والأردنية. وقد أُعلن هذا الموقف في تصريحات عديدة لمسؤولين سعوديين، سيّما وزير الخارجية، وفي بيانٍ للوزارة طالبت السعودية عبره برفع الحصار عن غزّة وإجلاء المصابين، و«الدفع بعملية السلام وفقاً لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، الرامية إلى إيجاد حلٍ عادل وشامل، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967م، عاصمتها القدس الشرقية». وقد فصّلَ هذا البيان مطالب محددة وعالية السقف مقارنةً ببيانٍ سابق تلا هجوم حماس على كيبوتزات ومواقع عسكرية في غلاف غزّة في السابع من أكتوبر، حيث اكتفى بدعوة الطرفين لـ«ضبط النفس»، ومطالبة المجتمع الدولي بـ«تفعيل عملية سلمية ذات مصداقية تفضي إلى حل الدولتين بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة». لم تُعلن السعودية تجميد مسارها التفاوضي المتقدم مع إسرائيل حول اتفاق سلام، لكنها اختارت حالياً تبنّي شعارات رفض التهجير والمطالبة بوقف إطلاق النار، ومشاركة وزير خارجيتها بفاعلية في الجهد العربي المشترك في الأمم المتحدة.
بمواقفها المعلنة، تبدو الكويت قريبة جداً من هواجس مصر والأردن. كذلك تبدو قطر، وإن دون أن تفقد «تمايزها» الذي تحرص عليه بشدّة.
ثمة تلاقٍ عربي رسمي، لا مثيل له منذ المبادرة العربية في قمة بيروت 2002، على «الخط الأحمر» الذي رسمته مصر والأردن أمام أي طرح تهجيري للفلسطينيين إلى أراضيهما. ولا يبدو أن هناك أي خطاب سياسي يرفع السقف بوضوح ما بعد هذا الخط الأحمر، ولا حتى عند المكونات العربية في محور الممانعة؛ أما ما دونه، فتظهر ملامح كائن قديم، «محور الاعتدال».
بعد أن هزّته الثورات العربية قبل عقد، ومزقته الأزمة الخليجية وارتداداتها قبل نصف عقد، وزادت دبلوماسية «صفقة القرن» الترمبية من تشرذُمه، تسمح انسجامات وتنسيقات الأسابيع الثلاثة الماضية، وخصوصاً التلاقيات عند التضامن مع مواقف مصر والأردن، بتلمُّس ملامح إعادة تشكّل «محور الاعتدال» العربي القديم حول الهواجس الأردنية-المصرية، وإنْ بانكفاء إماراتي وبحريني لا يصل إلى حدود السلبية تجاهه. لكن ثمة فارقٌ جوهري بين نُسختي «محور الاعتدال» سيحدد ممكِناته السياسية خلال الأسابيع والشهور المقبلة: القديم قام على موقف إيجابي من اتفاقات سلام كل من مصر والأردن (ومنظمة التحرير الفلسطينية) مع إسرائيل، وعلى مقاربة «واقعية» لأُسس التفاهم مع الولايات المتحدة، وعبرها مع إسرائيل. إلا أن المحور الجديد، لو تبلور، فسيقوم على أساس انقطاع سبل الوصال مع إسرائيل بشكلٍ لن يكون جَسرُه سهلاً بعد حرب غزّة؛ و«أزمة ثقة» غير مسبوقة لدول هذا المحور، متعددة الأسباب وسابقة في جزئها الأكبر على حرب غزة، مع الولايات المتحدة الأميركية.