مع بداية الأسبوع الثاني من تشرين الأول الماضي، ارتفعت حدة التوتر الإيراني- الأمريكي شرقي سوريا، وانعكس هذا التوتر بقصف متكرر لا يزال مستمرًا للقواعد الأمريكية الممتدة بين سوريا والعراق، ردت عليه أمريكا بقصف مستودعات تتبع لميليشيات إيرانية شرقي دير الزور.
وتزامنًا مع ارتفاع وتيرة هذا التوتر، قالت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إن مجموعات من النظام السوري والأجهزة الأمنية التابعة له، شنت في 29 من الشهر نفسه، هجومًا بالمدفعية الثقيلة والهاون وأسلحة “الدوشكا” على قرى وبلدات أبو حردوب، ذيبان، وأبو حمام، مخلفة قتلى بينهم مدنيون.
ردت “قسد” على الهجوم نفسه بقصف صاروخي طال مدينة الميادين التي تحكمها ميليشيات موالية لإيران، وتعتبر مركزًا رئيسًا لها منذ سنوات، مخلّفة قتلى وجرحى.
وقالت وكالة “سبوتنيك” الروسية حينها، إن مدنيًا قتل وأصيب نحو 40 آخرين معظمهم من الأطفال والنساء، جراء قصف صاروخي “انتقامي”، نفذته “قسد” على مدينة الميادين، ردًا على نجاح أبناء العشائر العربية بتحرير إحدى البلدات المتاخمة لقاعدة أمريكية في ريف دير الزور الشرقي.
تسيطر “قسد” على المناطق الممتدة شرق نهر الفرات باستثناء قرى الحسينية والصالحية وحطلة ومراط وطابية جزيرة ومظلوم وخشام، بينما يسيطر النظام السوري على المناطق الممتدة غرب النهر، وتتمركز فيها ميليشيات مالية لإيران بشكل رئيس.
أين “قسد” من التوتر
تخضع المناطق المحيطة بالقواعد الأمريكية الممتدة على الشريط الحدودي بين سوريا والعراق لسيطرة “قسد”، وتعتبر الأخيرة مسؤولة عن إدارتها على الصعيد الأمني والخدمي والعسكري، كما تعتبر مسؤولة عن تأمين الحماية لهذه القواعد.
ومع تكرار استهداف القواعد الأمريكية انطلاقًا من الأراضي العراقية في معظم الأحيان، نأت “قسد” بنفسها عن التعليق أو الرد على هذه الاستهدافات، باستثناء تلك التي طالت قواتها بشكل مباشر شرقي دير الزور.
الباحث المساعد في مركز “عمران للدراسات” أسامة شيخ علي، قال لعنب بلدي، إن “قسد” منشغلة بترتيب جبهتها الداخلية فيما يتعلق بالأحداث الأمنية التي شهدتها محافظة دير الزور بين آب وأيلول الماضيين، ولا تزال تداعياتها مستمرة على المنطقة.
وفي 28 من آب الماضي، اندلعت مواجهات بين “قسد” و”مجلس دير الزور العسكري” (ذو طبيعة عشائرية) التابع لها، وامتد هذا الخلاف ليشمل مناطق مختلفة من دير الزور، واستمر بصبغة عشائرية بعد أن غاب اسم “المجلس العسكري” عن الميدان خلال الأسبوع الأول للمواجهات.
وانحصرت اليوم الانتفاضة القبلية، التي اتهمتها “قسد” بأنها مدعومة من النظام السوري، بشخصية إبراهيم الهفل، الذي لاقى قبولًا جزئيًا من سكان المنطقة، وقدم نفسه كممثل يطالب بحقوق العشائر ولا ينتمي لأي جهة، علمًا أنه لم ينف الاتهامات الموجهة له بالتبعية للنظام على مدار الأشهر الماضية.
ويرى الباحث أن هذه التطورات صبّت في صالح “قسد” في نهاية المطاف، رغم تداعياتها الأمنية على المنطقة، إذ يمكن النظر إلى التطورات على أنها استغلت من قبل إيران، وقد تكون الميليشيات الإيرانية أدخلت بعض الأسلحة أو العناصر لشرق الفرات.
وأرجع أسباب استفادة “قسد” من التوتر الأمريكي- الإيراني، إلى أن أبرز مخاوفها كانت تتجلى باحتمالية الانسحاب الأمريكي من المنطقة، الذي سيتركها عرضة لتحركات جهات إقليمية معادية لها.
في حين أدى تصاعد التوتر مؤخرًا إلى ضمان الوجود الأمريكي في المنطقة لفترة زمنية ليست قصيرة، وقد تزيد أمريكا من أعداد قواتها في المنطقة استجابة لتصاعد التوتر فيها مع الميليشيات الإيرانية.
ومساء أمس الثلاثاء، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) عن نيتها نشر 300 جندي أمريكي إضافي في منطقة عمليات القيادة المركزية الأمريكية من الولايات المتحدة، استجابة لتصاعد الهجمات ضد قواتها في المنطقة، دون تحديد التوزع الجغرافي للجنود.
ما دور “قسد” من تصعيد محتمل؟
تعتبر “قسد” شريكًا للتحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ويضم 72 دولة، لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، بحسب تصريحات متكررة لمسؤولين أمريكيين، على امتداد السنوات الماضية.
ولم تتخذ أمريكا موقفًا منحازًا لـ”قسد” من المعارك التي خاضتها خلال دفاعها عن مناطق سيطرتها ضد عمليات عسكرية تركية، أو حتى أخرى نفذها النظام السوري مؤخرًا، باستثاء تلك التي دارت شرقي دير الزور عندما حاول النظام مدعومًا بمرتزقة “فاغنر” وميليشيات إيرانية التقدم نحو نقطة للتحالف الدولي ينتشر فيها جنود أمريكيون.
في الوقت نفسه، لا يمكن لـ”قسد” إلا أن تنحاز لداعمها الرئيسي (أمريكا) من الأحداث التي تشهدها المنطقة، بحسب ما يراه الباحث أسامة شيخ علي.
ويعتبر شيخ أي أن فكرة ترجيح علاقة “العمال الكردستاني” بإيران، على علاقة “قسد” بأمريكا غير منطقية، وانحياز الأخيرة لأي عمل يصب بمصلحة إيران ضد أمريكا هو بمثابة “شخص يطلق النار على أحد أطرافه”.
وحققت “قسد” بدعم أمريكي مكاسب لم تكن لتنالها شمال شرقي سوريا لولا الدعم الأمريكي، ولا يمكن أن تجازف بخسارتها لقاء انحيازها في موقف يعادي واشنطن.
الباحث قال لعنب بلدي، إن أمريكا أنشأت “قسد” لحماية قواعدها العسكرية تحت عنوان “إعادة الاستقرار” إلى المنطقة التي طرد منها تنظيم “الدولة”، وهو الدور الذي ستشغله “قسد” في حال استمرار تصاعد التوتر في المنطقة.
وقد تحقق “قسد” مكاسب إضافية لقاء انحيازها للصف الأمريكي، إذ يمكن أن تحصل على دعم عسكري أكبر، أو أكثر جدوى، وقد تحقق مكاسب سياسية أخرى، كالاعتراف بها كإدارة للمنطقة، وهو ليس ببعيد عن الواقع السياسي الذي تسعى له “قسد”.
“العمال الكردستاني” وإيران
في خضم التحليلات عن طبيعة هيمنة “حزب العمال الكردستاني” (PKK) ذو العلاقة الجيدة مع إيران، على “قسد” المدعومة أمريكيًا، تجدر الإشارة إلى أن هناك تياران فاعلان في “قسد” هما “العمال الكردستاني” وتيار صغير ذو تأثير ضئيل يقوده مظلوم عبدي، القائد العام لـ”قسد”. الكاتب والباحث في الشأن الكردي هوشنك أوسي، قال في حديث سابق لعنب بلدي، إن حالة التنافس الموجودة بين التيارين في “قسد” يضبطها الدعم الأمريكي لتيار مظلوم عبدي، الذي لا يشكّل نفوذه أي ثقل في المنطقة، ويعتبر “العمال الكردستاني” أكثر نفوذًا منه داخل “قسد”، وهو ما يعكس تضارب الأوامر، أو تضارب التصريحات، أو حتى تضارب السلوك، بحسب أوسي.
أوسي يرى أن “قسد” تحت سيطرة “العمال الكردستاني” بالكامل، بينما لدى مظلوم عبدي نفوذه على جيب صغير داخل الفصيل، وربما لا تتجاوز هذه المجموعة عناصر الحماية الشخصية التابعين له.
وتابع، أن الدعم الأمريكي لمظلوم عبدي جنّبه استهداف كوادر “العمال الكردستاني” له، وحتى الاستهداف التركي الذي قد يكون في مصلحة “العمال” إن حدث.
وفي الوقت نفسه، لا يمكن الحديث عن طبيعة علاقة “قسد” بداعمها الرئيسي أمريكا، دون النظر إلى حالة القرب التي راكمتها السنوات السابقة بين إيران و”العمال الكردستاني” الذي يدير المفاصل الأمنية في “قسد”.
ومع التطورات الأخيرة للعمليات العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” التي شارك بها “العمال” مجتهدًا لتثبيت نفوذه في مناطق جديدة، أصدر معهد “واشنطن لدراسات الشرق الأوسط” تحليلًا موجزًا قال فيه، إنه في ظل تقدم الحملة التي قادتها واشنطن ضد تنظيم “الدولة” في العراق وسوريا، سعى “العمال الكردستاني” لتحقيق أقصى قدر من المكاسب.
وبالإضافة إلى تقدّمه العسكري في وجه التنظيم، اكتسب “الحزب” المزيد من القوّة على الساحة السياسية في إقليم كردستان العراق، مستغلًا الانقسامات الداخلية في المنطقة في حين كان يستعد لتصعيد محتمل في تركيا وسوريا.
أُسس حزب “العمال الكردستاني” (PKK) في تركيا خلال سبعينيات القرن الماضي، كجماعة يسارية مسلحة، وصبغت نفسها كحركة انفصالية بمزيج فكري بين القومية الكردية والثورية الاشتراكية.
وفي ثمانينيات القرن الماضي، دخلت بمواجهات عسكرية مع الجيش التركي، بغية نيل حقوق سياسية وثقافية، وتحقيق مصير أكراد تركيا.
وفي التسعينيات، اعتقلت السلطات التركية مؤسس الحزب، عبد الله أوجلان، الذي كان مقيمًا في سوريا، ويُعتقد أن النظام السوري سلّمه في صفقة سياسية، وأودعته تركيا أحد سجونها الذي لا يزال يمكث فيه حتى اليوم.
ويرتبط “العمال الكردستاني” بمجموعة أحزاب كردية تشبهه من حيث المبادئ والعقيدة القومية، مثل حزب “الاتحاد الديمقراطي” في سوريا، وحزب “الحياة الحرة” في إيران.
مصالح مشتركة
تتقارب مصالح جماعة “PKK” على نحو متزايد مع مصالح إيران، منذ انطلاق الحرب على تنظيم “الدولة”، إذ لطالما سعت طهران لإضعاف تأثير أنقرة وتعزيز نفوذ بغداد على حكومة إقليم كردستان في أربيل، ومن جانبها تسعى تركيا إلى الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الحزب “الديمقراطي الكردستاني”، وهو أقوى تيار عسكري- سياسي في الإقليم الكردي بالعراق، ويدير الإقليم حاليًا، بحسب التحليل الموجز نفسه.
ومن جانبها، احتفظت واشنطن بنفوذ على فصائل كردية مختلفة، وكانت تأمل بإبعاد التأثير الإيراني وتجنب اندلاع حرب أهلية كردية أخرى، بحسب التحليل الموجز الذي دعا واشنطن لتعزز المؤسسات الديمقراطية لحكومة إقليم كردستان والمساعدة في إصلاح اقتصادها، إذا كانت تأمل بإبعاد النفوذ الإيراني.
تحليل آخر نشره مركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط” حمل عنوان “صعود الأكراد في سوريا”، تحدث عن أنه منذ اندلاع الثورة السورية، نفذ “العمال الكردستاني” مزيدًا من العمليات في جنوب شرق الأناضول، مع تسجيل زيادة لافتة في أعداد المقاتلين من أصل إيراني-كردي في صفوفه.
وتزامنًا مع ذلك، أوقف “حزب الحياة الحرة الكردستاني” (PJAK) (النسخة الإيرانية من حزب العمال الكردستاني) تقريبًا عملياته على الأراضي الإيرانية، وأشار التحليل إلى تقارير أوردت نظريات تتحدّث عن نشوء تحالف استراتيجي بين “العمال الكردستاني” وإيران في محاولة لممارسة ضغوط على تركيا، وتعزيز موقع الأسد في سوريا من جديد.
ما التوتر الإيراني- الأمريكي
اصبحت الانفجارات في محيط قواعد أمريكية شرقي دير الزور وشرقي محافظة الحسكة وقاعدة “التنف” شرقي سوريا، حدثًا معتادًا إذ تصاعدت وتيرة استهدافها من قبل ميليشيات تتهمها واشنطن بالتبعية لإيران.
وفي إجابة على أسئلة صحفيين، قال السكرتير الصحفي للوزارة العميد بات رايدر، إنه منذ الضربات الأمريكية على مواقع لميليشيات إيرانية في سوريا، في 26 من تشرين الأول الماضي، كانت هناك ستة هجمات إضافية على القواعد الأمريكية.
وأضاف، أن “هجمات صغيرة النطاق”، ثلاثة في العراق، وثلاثة في سوريا، إذ بلغ إجمالي الهجمات التي تعرضت لها القواعد الأمريكية في سوريا والعراق 27 هجومًا، 16 في العراق و11 في سوريا.
في 28 من تشرين الأول الماضي، قال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إنه لا ارتباط لبلاده مع الجماعات التي طالت القوات الأمريكية في سوريا، معتبرًا أن الميلشيات المنتشرة في المنطقة تتصرف من تلقاء نفسها ولم تتلف أي توجيهات من طهران.
وأضاف عبد اللهيان في مقابلة مصورة مع وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، أن الجماعات المسلحة المعادية للولايات المتحدة لا تتلقى أي أوامر أو تعليمات من بلاده، لافتًا إلى أن الجانب الأمريكي يزعم أن هذه الأمور مرتبطة بإيران، ولكن هذه المجموعات “تقرر بنفسها، وبشكل مستقل”.
ونفى عبد اللهيان بحسب المقابلة التي ترجمتها عنب بلدي، إرسال بلاده أي قوات جديدة سواء إلى سوريا أو إلى أجزاء أخرى من المنطقة، مضيفًا أن قوات بلاده يقتصر عملها على مراقبة التطورات فقط، ووفقًا لمصالحهم الوطنية.
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية أعلنت، فجر الجمعة 27 من الشهر نفسه، عن أن طائرتين مقاتلتين أمريكيتين قصفتا منشآت للأسلحة والذخيرة تابعة لإيران في شمال شرقي سوريا، ردًا على الاستهدافات المتكررة لقواعدها في سوريا والعراق.
وعلق وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، على الهجمات التي وصفها بـ”الضربات الدقيقة” قائلًا إنها جاءت للدفاع عن النفس، وردًا على سلسلة من الهجمات المستمرة و”غير الناجحة” في معظمها ضد أفراد أمريكيين في العراق وسوريا من قبل الميليشيات المدعومة من إيران.