نعم لقد خسرت إسرائيل المعركة!
كيف تخسر الأمم المعارك؟ تخسر حين تفتقد السبل لتحقيق مستوى أعلى من الأمن والردع، بل وتفشل في تحقيق أهدافها المعلنة. وبعدما تواطأت طويلاً على السلام، حاولت الطبقة السياسية الإسرائيلية رفع سقف أهدافها لعلها تستعيد ماء الوجه. وبذلك كتبت هزيمتها بيدها، ليس بسبب رد فعلها الغريزي الانتقامي فحسب، بل كان الفشل تتويجاً للوثة في صلب العقيدة العسكرية لنخبها الحاكمة.
فلقد أعلنت إسرائيل سقف أهدافها:
أولاً: الترانسفير، الذي وضعته حكومة إسرائيل، من نتنياهو إلى بن غفير، على رأس أهدافها، وسرعان ما تم تنفيس هذا الهدف المغامر والكارثي، بفضل موقف عربي، مصري، وأردني وسعودي متضافر.
ثانياً: حين وضعت إسرائيل هدفها الثاني، سحق “حماس” وتطهير غزة من المقاتلين، فلقد أشهرت، منذ البداية، هزيمتها المسبقة أمام هدف مستحيل. فبعدما صحا العالم على فداحة الخسائر المدنية التي تسببت بها الهجمات الإسرائيلية، تجد العسكرية الإسرائيلية نفسها غير قادرة على اجتراح خطط عملية لتحقيق الهدف من دون قتل عشرات الألوف من المدنيين وتجويعهم.
ثالثاً: حين وضعت حكومة إسرائيل هدفاً لها تحرير الرهائن والأسرى من دون تفاوض، عمقت مأزقها العسكري، إذ تعلم إسرائيل أن لا قواتها الخاصة ولا قوات الدلتا الأميركية، كافية لتحرير الرهائن عنوة. فلكي تحرر رهينة واحدة تحتاج أولاً لاستخبارات ممتازة، وتحتاج لضمان عنصر المفاجأة، وتحتاج لكثير من الحظ. وإسرائيل تفتقد كل ذلك.
أما هذا القتل المنفلت لألوف المدنيين، والتدمير الأعمى للموارد والمباني في غزة، فليس له أي تفسير سوى افتقاد المغزى وغريزة الانتقام. اللهم إلا إن كانت إسرائيل لا تزال تسعى للعودة إلى دورة عقيمة من كسر معنويات الفلسطينيين، ما يعني أنها لم تتعلم شيئاً من دروس 56 عاماً من الاحتلال.
إنجازات إسرائيل لن تقاس بعدد قتلى الفلسطينيين من المدنيين، ولا بمستوى الخراب الذي ألحقته بأسباب الحياة، بل سيقاس بمدى تحقيق الأهداف السياسية. لذلك وبهدف الهروب من استحقاقات السلام تغرق العسكرية الإسرائيلية في وحلها. فما هي النتيجة؟
حين تفشل الأهداف العسكرية لجيش ما بهذا القدر الفاقع، لا تعزى خسارته إلى أخطاء القادة، بل إلى عيوب جوهرية في عقله الاستراتيجي والتاريخي.
منطق القوة المبني على الإكراه الاستراتيجي للإقليم بأسره، وتغير حقائق التاريخ، وإعادة صوغ الحقوق، وتطفيش الفلسطينيين والاستيلاء على الأرض، ليس إلا منطقاً موقتاً غير قابل للبقاء. إنه منطق لا تاريخي، عابر، وهو بالتالي مهزوم بالتعريف.
وبعدما خسرت هذه المعركة، لن تكون إسرائيل قادرة على استعادة ردعها بجرة قلم. لا بد من أن تتغير هي ذاتها! فليس ثمة ما يحمي أمن أي دولة بقدر السلام الإقليمي، ليشكل الاعتراف بحل الدولتين أفقاً حتمياً كمخرج عقلاني.
في بداية الأزمة، لم تدرك الإدارة الأميركية حجم العزلة الدبلوماسية والسياسية التي ستواجهها بسبب منحها إسرائيل البطاقة البيضاء للقتل والتدمير ومن دون أهداف عسكرية معتبرة. ترجع خلفية هذا الموقف إلى الذعر الذي انتاب الدول الغربية من احتمال تداعي الردع الاستراتيجي الإسرائيلي.
لكن أمام استمراء إسرائيل للموقف الأميركي وانطلاق العنان للانتقامية الإسرائيلية، بدا الموقف الأميركي تعيساً إقليمياً ودولياً. وسرعان ما تبين أن الوقت لن يحل مشكلة افتقاد إسرائيل الوضوح الاستراتيجي. واضطرت الدبلوماسية الأميركية لتحريك موقفها الدبلوماسي نحو وقف هدنة في المعارك، كما سنشاهد في الأيام المقبلة.
ونهاية الأمر، لا شك في أن هذه السياسة الأميركية كانت مدخلاً بائساً لرؤية إدارة بايدن الجديدة عن تحول الصراعات الدولية المتفرقة، إلى مجابهة مع روسيا وإيران والصين.
والآن، وقد خسرت إسرائيل المعركة، يصبح السؤال الأهم من سينتصر؟
حاول بايدن أن يرسم خندقاً يتمترس فيه بوتين وإيران و”حماس”. كلام جميل لكن من سيكون في الخندق المقابل؟
ثمة مساران محتملان لصوغ خسارة إسرائيل وهندسة الخندق الثاني.
المسار الأول: من الواضح أنه باستمرار إطلاق يد الحكومة والجيش الإسرائيلي على الأرض، في بحثهما عن انتصار مفقود، ستجر إسرائيل الولايات المتحدة نحو المزيد من العزلة الإقليمية والمزيد من تداعي تحالفاتها الإقليمية بل والدولية. بل ربما تجرها مباشرة إلى المعركة.
لا شك في أن العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين، المنافسين والأعداء للولايات المتحدة، يترقبون بشغف، ليحصدوا إفلاس الدبلوماسية الأميركية. بل ينتظرون انقشاع غبار المعارك، ليملأوا الفراغ الذي تخلفه العزلة الأميركية ويقطفوا نتائج انكفائها. عندها، ستحسم لعقود المعركة في ساحة الشرق الأوسط، لمصلحة معسكر تأبيد الصراع، ولينتصر انتصاراً حاسماً ومعلناً معسكر بوتين وإيران و”حماس” وربما نتنياهو!
ثمة مسار أفضل يفترض أن تدفعه الولايات المتحدة.
فبدلاً من تسليم الإقليم ليصبح مكسر عصا أبدياً لروسيا وإيران، ثمة فرصة تاريخية لرسم خندق من طراز آخر. خندق للجم الانتقامية العسكرية الإسرائيلية، خندق يضم أنصار سلام منصف للفلسطينيين، ويفتح الطريق لحل الدولتين، ليس بعد سنين بل إنه السلام الآن.
ستكون طريقة تعامل الولايات المتحدة في المعركة الراهنة هي العامل الحاسم في تحديد أي مسار تتخذه الأحداث، وأي أجندة ستنتصر بعد أن ينقشع دخان الحرب في غزة. ذلك أنه حتى الولايات المتحدة ذاتها، ليست قادرة على قلب هزيمة إسرائيل إلى انتصار. فلو كان في استطاعتها الانتصار في الحرب اللامتناظرة وحروب المدن لانتصرت في حربها في العراق أو أفغانستان.
عقارب ساعة انفجار الصراع في الإقليم تتحرك بتسارع كبير وانفجاره مسألة وقت، وهو مرهون بعوامل عدة، إذ أصبح “حزب الله” على يقين من أنه سيكون المستهدف التالي بعد “حماس”، ليس بالضرورة بتورط أميركا مباشرة في حرب إقليمية، بل عبر ضغوط إضافية هائلة على مجمل أذرع إيران، وبخاصة على “حزب الله”. ولا شك في أن الغرب سيعمل كل ما هو ممكن من أجل إبعاد سكين “حزب الله” الموجه إلى رقبة إسرائيل. فلقد أمكن خلال العقود الماضية ضبط مدى اقتراب هذا السكين، بالكثير من الصفقات وقواعد الاشتباك المتبادلة.
لكن، بعدما اكتشفت إدارة بايدن مرة أخرى كم كان ساذجاً وهمها حول تحول إيران دولة طبيعة أو عامل استقرار في الإقليم، وبعدما اكتشفت إسرائيل من جديد سذاجتها، سواء في التعامل مع “حماس” أم مع “حزب الله” على أمل الاستمرار في قص العشب من دون اجتثاث المخاطر، بعد ذلك لا بد من تغيير مشهد “حزب الله” والميليشيات الإيرانية.
لم يعد السؤال إن كان الاشتباك سيحدث، بل صار متى ومن سيبدأه استباقياً. وكلما بدت الولايات المتحدة معزولة وضعيفة، شجعت خصومها على الاستباق.