كثيراً ما أجريت في الآونة الأخيرة مقارنات بين الصعوبات التي سيواجهها الإسرائيليّون في غزّة بتلك التي واجهها الأميركيّون في الفلّوجة (2005) والقوّات العراقيّة في الموصل (2017). لكن للعقيد الأميركيّ المتقاعد ومحلّل الأبحاث في مجلس الابتكار الدفاعيّ جو بوتشينو إضافة أخرى يعتقد أنّها أكثر دقّة من هذين المثلين.
كتب بوتشينو في مجلّة “فورين بوليسي ” أنّ مثلي الفلّوجة والموصل قد يقدّمان نظرة ثاقبة للتعقيدات المرهقة لحرب المدن المقبلة، لكنّهما يفشلان في الأخذ بالاعتبار التعقيدات الإضافيّة التي يواجهها الإسرائيليون في غزة. سيكون قتال الجيش الإسرائيليّ أصعب وأطول من معركة الفلّوجة الثانية وأكثر عنفاً من هجوم الموصل.
تمثّل متاهة الأنفاق المترامية الأطراف في غزة جانباً من جوانب الحرب التي لم يواجهها الجيش الأميركي خلال الحربين في العراق وأفغانستان. بالفعل، بدأ القتال تحت الأرض: يوم الثلاثاء، قالت إسرائيل إنّ قواتها دخلت شبكة أنفاق “حماس” الواسعة وهاجمت المسلّحين هناك. للعثور على تشابه أكثر ملاءمة من التاريخ القتاليّ الأميركيّ لهذا النوع من الحروب، ثمّة حاجة للعودة إلى أبعد من ذلك بكثير في التاريخ – إلى حرب فيتنام، بحسب بوتشينو.
“فئران الأنفاق”
طوال حرب فيتنام، لعبت أنظمة أنفاق الفيت كونغ، وخصوصاً تلك الموجودة في منطقة كو تشي في مدينة هوشي منه (سايغون آنذاك)، دوراً حاسماً في الدراما الفظيعة لذلك الصراع. تقع أنفاق كو تشي التي يبلغ طولها 150 ميلاً (241 كيلومتراً) على المشارف الريفيّة لما كانت تُعرف آنذاك بالعاصمة الفيتناميّة الجنوبيّة، وكانت عبارة عن متاهة من الممرّات الضيّقة والفخاخ المتفجّرة المخفيّة بذكاء، وغالباً في ظلمة دامسة.
أصبح تفوّق الولايات المتحدة في الطائرات القاذفة والمدفعيّة والهاون وغيرها من القدرات صوريّاً بسبب المتاهات الجوفيّة التي سمحت لقوات حرب العصابات بنصب كمين محيّر للقوات الأميركيّة والفيتناميّة الجنوبيّة فوق الأرض قبل أن تختفي. تمّ بناء الأنفاق يدويّاً بشكل معقّد خلال الحرب الهنديّة الصينيّة في أواخر الأربعينات، وكانت بمثابة أماكن للمعيشة وتخزين الإمدادات وقواعد العمليات. لقد قدّمت مجالاً لبيئة قتال غير مرئيّة والأهمّ من ذلك أنها لم تكن متاحة للأميريكيّين والفيتناميّين الجنوبيّين، وجعلوا الحرب فوق الأرض أكثر صعوبة بشكل مضاعف.
بحلول سنة 1968، كانت أنظمة أنفاق الفيتكونغ رمزاً لتجربة الولايات المتحدة المروعة في فيتنام: تحت الأرض، تحوّلت المزايا التقنيّة المهمّة للجيش الأميركيّ إلى قتال في مساحات ضيّقة وغير مألوفة، بالسكاكين والمصابيح الكهربائيّة. أنتجت أنظمة الأنفاق هذه مجموعة مختارة خصّيصاً من الجنود الأميركيين والأستراليين والنيوزيلنديين والفيتناميين الجنوبيين المعروفين باسم “فئران الأنفاق” والذين تم تدريبهم على القتال في المجال الجوفيّ الشديد الخطورة. لم يخدم بهذه الصفة سوى شريحة صغيرة من القوات الأميركيّة في فيتنام – نحو 700 جندي.
تشابه تكتيكيّ واستراتيجيّ
تحمل أنفاق غزة تشابهاً استراتيجيّاً وتكتيكيّاً مع أنفاق كو تشي. كما هو الحال في فيتنام، تمّ تطوير هذه الهياكل تحت الأرض لأوّل مرّة قبل وقت طويل من سيطرة حماس على المنطقة سنة 2007، ولها أغراض متنوّعة. إنّ تطوّرها واستخداماتها التي لا تعدّ ولا تحصى ستثير غضب الجيش الإسرائيليّ. وهناك الأنفاق التي تسيطر عليها حماس لتهريب الأسلحة بعيداً من أعين الطائرات الإسرائيلية بدون طيّار. ثمّة ممرّات تجاريّة تدرّ إيرادات من البضائع المهرّبة عبر حدود غزة مع مصر. ثمّة مراكز للقيادة والسيطرة ومخابئ الذخيرة وأماكن المعيشة. لكنّ الجانب الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لإسرائيل هو الأنفاق القتالية.
كانت هذه العمليّات محوريّة في عمليّات مثل أسر الجنديّ الإسرائيلي جلعاد شاليط في 2006، حين استخدم المسلّحون نفقاً لدخول إسرائيل بالقرب من معبر كرم أبو سالم الحدوديّ. لقد اختفى شاليط المختطف في هذه الأنفاق وظلّ أسيراً لأكثر من خمسة أعوام، وهو دليل آخر على أنّ هذه الأنفاق توفّر مزايا دفاعيّة وستحبط المحاولات الإسرائيليّة لقتل عناصر “حماس” واستعادة الرهائن أحياء.
تاريخ أنفاق غزّة
لقد عانى سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة ومعظمهم مدنيّون من صعوبات طويلة الأمد بسبب الحصار والتحدّيات الاقتصاديّة واندلاع أعمال العنف بشكل متكرّر. بما أنّهم عاطلون عن العمل وفقراء إلى حدّ كبير، هم مثل كل الناس، يتطلعون إلى السيادة وتقرير المصير، فضلاً عن حياة خالية من الصراع. وعلى الرغم من أنّ شبكة الأنفاق تعتبر استراتيجيّة عسكريّاً بالنسبة إلى “حماس”، هي ترمز أيضاً إلى المدى الذي يشعر بعض الفلسطينيّين بأنّه يجب عليهم خوضه لضمان أمنهم ومقاومتهم.
يعود تاريخ الأنفاق في غزّة إلى أواخر التسعينات. وفي أوائل العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، كانت بمثابة قنوات لتهريب البضائع والأسلحة بين غزة ومصر تحت حدود كانت أقلّ تحصيناً مما هي عليه اليوم. إنّ استثمار “حماس” في هذه الأنفاق التي تموّلها إيران إلى حد كبير هو دليل على قيمتها.
وامتدّ نفق تمّ اكتشافه قبل عقد من الزمن لمسافة ميل ونصف داخل إسرائيل وتطلّب 10 ملايين دولار و800 طنّ خرسانة لبنائه. في أعقاب حرب غزة سنة 2014 حين اكتشف الجيش الإسرائيليّ العديد من هذه الأنفاق خلال “عمليّة الجرف الصامد”، نفّذت إسرائيل إجراءات للحدّ من تحويل موادّ البناء التي توفرها إسرائيل لبناء الأنفاق. على الرغم من هذه التدابير، ازدهر اقتصادٌ تحت أرضيّ، مع توفّر المواد بسهولة لبناء المزيد من الأنفاق.
قتال خانق… وجنون ارتياب
في حين امتدّت أنفاق فيتنام على مسافات شاسعة، تتكثّف أنفاق غزة في مساحة أصغر بكثير، ممّا يؤدّي إلى زيادة كثافة الأنفاق وتفرّعها. علاوة على ذلك، إنّ الكثير من التربة في ساحل غزة أكثر ليونة من التربة في جنوب شرق فيتنام. وكما أشار العديد من المحلّلين، كان القتال في الفلّوجة والموصل ضيّقاً ومقيّداً. القتال في أنفاق غزة سيكون خانقاً. وستتمتّع حماس بكل المزايا، لأسباب ليس أقلّها أنّ العمق الإجماليّ واتساع الشبكة تحت الأرض لا يزال غير معروف للجيش الإسرائيليّ.
وتشير بعض التقديرات إلى وجود أكثر من 300 ميل (نحو 500 كيلومتر) من الأنفاق تحت غزة. ومع وجود أنفاق عميقة وواسعة بما يكفي لنقل الدراجات الناريّة وتصل إلى 115 قدماً (نحو 35 متراً) تحت الأرض، أصبحت براعة “حماس” الهندسيّة المطلقة وقدرتها على الاستثمار الاستراتيجيّ على مدى عقود واضحة. وتتجاوز التحدّيات الحدود الجسديّة إلى النفسيّة. كما هي الحال مع مقاتلي الأنفاق التابعة للفيت كونغ، يمكن للعدوّ القادر على الخروج من الأرض ثم الاختفاء بسرعة تحتها اكتساب ميزة نفسيّة من خلال إحداث الارتباك وجنون الارتياب.
حين يؤثّر باطن الأرض على ما فوقها
إنّ المتوازيات التاريخيّة مثل حرب فيتنام والقتال في المناطق الحضريّة في الفلوجة والموصل تقدّم رؤى مهمّة ولكنّها تفشل في فهم ما ينتظر المقتحمين بشكل كامل. ترمز أنفاق غزّة إلى نموذج جديد في الحرب، حيث كلّ ضربة تحت الأرض لها آثار فوقها. في الأشهر المقبلة، ختم بوتشينو، وبينما يراقب العالم عن كثب، ستواجه إسرائيل معركتين مزدوجتين: واحدة ضد عدوّ متحصّن في الأنفاق، وأخرى في الفضاء المعلوماتيّ العالميّ.