في ارتحالاته الكثيرة التي يتقنها منذ بدايته المبكرة حتى اللحظة الراهنة، يحوّل الشاعر سيف الرحبي خطواته إلى تأملات ومكابدات ومغامرات، ويعيد تشكيلها على هيئة نصوص متدفقة، سواء قصد أن يكتب شعراً أو نثراً او ادب الرحلات أو سيرة ذاتية أو نصّاً خارج التصنيف، فهو دائماً “يستلّ العبارة من الأحشاء، كما يُستلّ النصل الحاد من اللحم الحي”، على حد تعبيره.
وهو في عبوره المتواصل للأمكنة، يتسلل أيضاً إلى محتوياتها الثرية والخفية ، طامحاً إلى التأريخ للإنسان، ذلك الكائن القادر على صناعة الأحداث عبر العصور . وأهم ما يصطحبه الرحبي معه في حقيبة سفره هو قلقه الأبدي “كأن الريح تحته”، وقلمه الذي ربما يستجيب للنزف، وذاكرته المشحونة اللاقطة، التي تحمل في طياتها خرائط أرضه وذاته وجيناته الخاصة: “لا يمكنه النوم، لا يمكنه الكتابة، لا يمكنه اليقظة/ أشباحه تتقدّم إلى الغرفة وتتمدد على السرير/ صقور ترعى في عينيه بمسرة/ قرية بكاملها ترتجف في أحشائه/ وجد نفسه جنديّاً في حروب لا علاقة له بها/ وجد نفسه مايسترو لجيش من المتسكعين/ وربما لم يجد شيئاً، عدا رماد أيامه المقبلة”.
ولا يكتفي الرحبي، الذي عاش في دول عربية وأوروبية متعددة، وقطع أشواطاً طويلة في التنقل بين بقاع العالم، بما احتوته قصائده من انعكاسات لتلك الارتحالات، كما في دواوينه “نورسة الجنوب” و”الجبل الأخضر” ورأس المسافر” و”رجل من الربع الخالي” وغيرها. فها هو خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة يصدر ثلاثة كتب تنغمس في الرحلة بشكل أكثر وضوحاً وتركيزاً، هي: “في النور المنبعث من نبوءة الغراب” (منشورات الجمل)، و”رحلة إلى جبال سراييفو” (دار العين)، و”عاصفة على جناح متعب” (الآن – ناشرون وموزعون). وهي كتب تستعصي على التصنيف النوعي التقليدي، وتتمرد على التقيد بالجنس الأدبي المحدد سلفاً. فالعبارة المراوغة التي يطمح إليها المؤلف، ربما يشير إليها قوله “العبارة التي تحرر الجسد من أعباء التاريخ، ملقاة خلف عشبة أو صخرة في الوادي العتيق. لقد عثر عليها حطّاب أو شاعر ذات دهر، وأودعها في ذاكرة الظبي السارح في السيوح”.
الأفق المفتوح
في حواره مع “إندبندنت عربية”، يتحدث الشاعر العُماني سيف الرحبي (67 عاماً) عن جذور هذه النزعة “عبر النوعية” في تجربته منذ البداية، موضحاً أن هذه المقاربة أو الممارسة الكتابية ربما بدأت عنده مبكراً، منذ البدايات المشرعة دائماً في البحث عن أفق تعبيري ينسجم أكثر مع الإيقاع النفسي والحياتي الذي يعيشه، على صعيد الذات المفتوحة على الآخر، والعالم. فمنذ المحاولات الأولى التي تمتد إلى أربعة عقود، كان لديه “ضيق بأطر التصنيف والارتهان بنوع أدبي بعينه، وبالمعنى الصارم والمتوارث قديماً وحديثاً، وبحصار المكان للواحد”.
ويضيف الرحبي: “قادني هذا البحث في الهروب من حصار النوع والصنف إلى ضياء الأفق المفتوح وظلمته، الذي كان يتخذ تجليات ومحطات زمنية تحاول تجاوز الإخفاقات باتجاه تعبيري أمثل، وأكثر إقناعًا، وأصالة بالمعنى الإبداعي والجمالي. وفي هذا السياق، تأتي كتب سراييفو والغراب والجناح المتعب التي أشرتَ إليها، وقد كُتبت في الزمن الكوروني، الذي لا نزال نعيش مفاعيله التدميرية على أصعدة شتى. وهذه الكتب الثلاثة، مثل الكثير من سابقاتها، تتوسل الأفق التعبيري المفتوح أو النص المفتوح كما جرت التسمية، وتحاول أن تزاوج أو تدمج أساليب أو أنواعًا مختلفة، من المذكرات اليومية، إلى الشعر، إلى الرحلة، إلى تأملات ذهنية وبصرية شتى”.
“وربما هذه التجارب والكتابات لي ولغيري من المبدعين الكثيرين في الفضاء العربي، يقول سيف الرحبي، يمكن أن تسهم في انتشال قصيدة النثر من النمطية والاستسهال، وتوسع رقعتها وقدراتها التعبيرية الخبيئة، التي تحاور وتتحاور وتتفاعل وتطمح دوماً إلى فضاء أكثر حرية في التعبير عن أعاصير الآلام وحروب هذا العالم المضطرب، بخاصة في أزمنة الانحطاط العربية التي طال أمدها رغم كل الأحلام والتضحيات الجسيمة، والتي ترتد إلى ما قبل الوضع الذي حلمت الجماعات العربية وغير العربية في تجاوزه، إذ تعيش مرحلة أكثر قمعًا وشتاتًا وانحدارًا بالمعنى الحضاري الشامل للكلمة”.
ويرى سيف الرحبي أنه لا يكتب أدب رحلات، بالمعنى التقليدي “المسالكي”، ولا حتى بالمعنى الحديث: “الرحلة بالنسبة لي، ذريعة ليست أكثر لقول الوجود والعالم بطرق مختلفة وحتى متنافرة أحياناً، لكنها تحاول في الأخير أن تنتظم في طقس ومناخ كتابي ونفسي ولغوي متناغم تظفر به أحيانا وتخفق في أخرى. كتابة أدب الرحلة على النمط الوصفي المتداول أصبحت لا قيمة لها في ظل هيمنة التكنولوجيا وتطبيقاتها المحتشدة. بكبسة زر تنهال عليك العوالم والمعلومات. طبعاً تبقى للرحلة والمكان ظلالهما العميقة ومفردات الرحلة في المكان وطقوسه مدموجة في كلية النص وفوضاه التي هي فوضى العالم والترحل. لكن في الكتابة تلملم أشلاءها وشظاياها لتصنع عالماً مصغراً على نحو من التناغم الروحي والانسجام، حتى في أقصى حالات التعبير عن الدمار المادي والروحي”.
وحين يكون النص من الرحلة العمانية خصوصاً، ومن الرحلة العربية، يختلف السياق كليّاً بمفرداته وطقوسه، بغموضه وسطوعه، وحالاته التي تربك البصر والبصيرة، عن الرحلة في الشرق الأقصى وأوروبا الشرقية والغربية، لكن “تبقى الرؤية والأسلوب اللذان يعبران عن الوجود والعالم كما هما، ربما بمستويات تتراوح في الجدية والتوتر والمقاربة. فالمشهد البصري يفتح على اللانهائي، أو اللقطة الفوتوغرافية بحسب جان لوك غودار المخرج الفرنسي: لكل شيء أهميته ومكانه في السياق الكلي”.
الهم الوطني والإنساني
وبسؤاله عن انفتاح كتاباته عادة على المحنة، كمواطن عُماني عربي، وكإنسان، في داخله الكثير من الأوجاع والتمزقات والانهيارات، وارتداده إلى همومه المحلية والعربية، حتى في وصفه لرحلاته إلى دول غير عربية، وتذكره دائماً كل ما يحدث في دول المشرق من أزمات، يجيب سيف الرحبي بقوله: “منذ الطفولة ومطلع العمر المبكر من عمان، بلد الولادة الأولى، إلى القاهرة، إلى بلاد الشام والعالم، حملتُ الهم الوطني العماني والعربي والإنساني في كل محطات هذه الرحلة، التي هي رحلة الحياة والكتابة بمعانيها الرمزية والواقعية، والتي تشرف على النهايات الحتمية كأمر طبيعي. حملتُ هذا الهم واحتلتني هواجسه وأحلامه كيانيّاً ووجدانيّاً، من غير ادعاء ولا شعار إيديولوجي بامتلاك حقيقة نهائية أو شبه نهائية، غير ما كان في عمر المراهقة. حملته أو حملناه كما تحمل الأم رضيعها والعشيرة وشم السلالة”.
“المعاناة والهموم والأحلام والكوابيس بشرية مشتركة، وكأننا جزء من نسيج هذا الكوكب الهرم ومن هذه الإنسانية الجريحة، وامتداد لبشر الكهوف الذين ما زالوا يقطنون لاوعينا الجمعي كما تقطن صحراء الربع الخالي الأفئدة والشعر والأعماق”. لكن، يضيف الرحبي “تبقى للوضع العربي خصائصه وشروطه. أنا واحد من جيل أدبي عربي، وُلدنا حياة وأدباً من رحم هذه الأمكنة والجماعات العربية التي تربطها وشائج قربى بما دُعي بالعالم الثالث في معظم القارات. حملنا معها أحلام التجاوز للأوضاع الكارثية التي نعيشها، هذه الأحلام التي أثخنتها الجراحات والتجارب المريرة التي عاشتها الأقاليم العربية وكادت تنطفئ، لولا نور الداخل والذات الحالمة دوماً، حتى في المحنة، لولا نور ذلك الأمل الذي لا شفاء منه، بحسب تعبير الكاتب والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي”.
ويضيف: “ها نحن في العقد السادس من العمر وأشهد على هول الوضع القيامي الذي آلت إليه المنطقة أو المناطق العربية والعالم. بعض الأصدقاء سبقونا إلى رحاب الأبدية، اختزلوا أمد المعاناة ورحلوا، رغم حزننا العميق عليهم. ثمة سؤال أضحى ملحّاً: كيف تستطيع اللغة والأدب والفكر التعبير عن هول المأساة بتمظهراتها المختلفة؟ لكن سيرورة التاريخ بصرامتها المعهودة ماضية، وكذلك عملية الكتابة والتعبير في بحثها الدائم ماضية نحو المعلوم أو المجهول الغامض أكثر”.
ارتجافات الروح
وبسؤاله عن الدور الذي تلعبه الجغرافيا والطبيعة والبيئة بمفهومها الأشمل، في صياغة النصوص وعملية الكتابة، يقول سيف الرحبي: “هو ليس دوراً تزيينيّاً ديكوريّاً بمعنى الوصف الخارجي، فهذه العناصر تحمل ارتجافات الروح وجراح التاريخ والبشر في الأمكنة والأزمنة، التي تنفتح وتترحل من المحدود والمحدد إلى اللامحدود والمطلق، وتحمل السؤال الكبير للوجود. والشاعر الكاتب بالضرورة على ما أظن، متورط في التاريخ بأبعاده السحيقة حتى الراهن المتفجر، بكل أنواع الأوبئة السياسية والاجتماعية، كمرحلة انحطاط في الحالة العربية، تجافي وتعادي قيم الحرية الحقيقية والعدالة والجمال، على تلك اللفظية الفارغة من المحتوى والمعنى”.
ويرى الرحبي ان الثقافة كانت لدى نخب الأجيال العربية الأولى من مصر إلى بلاد الشام والعراق تقود قاطرة السياسة، وكان هامش الحرية أكثر سعة في التعبير عن القضايا الملحة. ولكن، ضاق هذا الهامش كثيراً، وصارت السياسة هي التي تقود مركب الثقافة والفكر بعد انعطافة الهزيمة الشاملة عام 1967، وهيمنة الإيديولوجيات والارتدادات وانفجار الحروب الأهلية والعصبية وإجهاض أحلام التغيير.
تصحيح التاريخ
وبسؤال الشاعر الرحبي عن غاية الكتابة الإبداعية بشتى صورها، وطموحات قصيدة النثر العربية بشكل خاص، وسط أشواك هذه المرحلة الكابوسية، كما يصفها، يجيب موضحاً: “قصيدة النثر وكافة تجليات المخيلة والفكر تدخل كلها في معاناة هذا المضيق التاريخي للمرحلة الراهنة. بالضرورة يجب أن تجري في الكتابة إعادة تصحيح التاريخ وتحريره من الرواية الرسمية والاستهلاكية. الكاتب والشاعر بمثابة الشاهد فعلاً على المرحلة، الشاهد الحقيقي على هذه المجزرة العربية والكونية الشاسعة، التي تتقدم أكثر نحو قعر الهاوية والهلاك. ولأن الساسة تجار الحروب والأسلحة والأدوية يمسكون بعنق العالم ومصائره على هذا النحو، فحتماً سيقودونه إلى خراب أكبر”.
ويرى الرحبي أنه حتى قبل سطوع نجم الرواية على هذا النحو الشعبوي، كان تلقي الشعر العربي محدوداً، ولدى جمهرة بعينها، هذا الشعر الاستهلاكي والمنبري الزاعق، والذي ليس شعراً بالمعنى العميق للتعبير، قدامة وحداثة. ولا يمكن لهذا الشعر وفي مقدمته راهناً ما سمي بقصيدة النثر أن يكون جماهيريّاً، وكذلك بدرجة أقل الرواية، بمعناها الطليعي المحتشد بالتأمل، والرؤى والشعر.
وفي ظل اكتساح وسائل الميديا والتواصل الجماهيري على هذا النحو الخرافي، يقول الرحبي : “تخلخت معظم القيم والمنظومات والرؤى الفكرية والجمالية، ويا للأسف، في صالح الاستهلاك والسطحية والابتذال أكثر. ولأن بيئة المجتمعات العربية المقفرة من الحرية والديمقراطية عهوداً طويلة داستها أنظمة الاستبداد، فلابد أن تقود إلى هذا السقوط الحضاري بمعناه الشامل، وتدفع به وتشجع عليه”.
ويختتم سيف الرحبي حواره قائلاً: “يبقى النقيض لهذا التيار الشعبوي الجارف، محصناً بهامشه، يضيق ويتسع، لكنه الضوء الوحيد الذي يضيء في ليل القطيع والاستبداد العربي خصوصاً والعالمي، استبداد القطب الواحد وتكريس الإنسان الكوني ذي البعد الواحد، حياةً وأنماطَ سلوكٍ وأوهامٍ. وإن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ينجزان ذلك بضراوة تفوق الوصف والكلمات”.