باتت جبهة الجنوب اللبناني بعد 28 يوماً على عملية “طوفان الأقصى” جزءاً من معركة غزة، تنتظر التصعيد الشامل. الواضح أن “حزب الله” يتولى إدارة وحدة الجبهات من لبنان، وإن كانت المعركة في القطاع تخوضها فلسطينياً حركة “حماس” التي تتحرك سياسياً وإعلامياً في لبنان بإشراف الحزب، فيما نفذت عمليات إطلاق صاروخية من الجنوب وصلت إلى مستعمرة كريات شمونة، وهو لا يحدث في جبهات أخرى كسوريا مثلاً. وانطلاقاً من ذلك يجري تحريك الجبهة اللبنانية بالتماهي مع التطورات في غزة على وقع الحرب البرية ضد القطاع، وفي المنطقة أيضاً لجهة الحركة الدبلوماسية والمفاوضات التي تقودها دول عربية وغربية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار ترفضه إسرائيل، أو الوصول إلى تسوية في ملف الأسرى أو الرهائن لدى “حماس”. ولا ينفصل كل ذلك عن خط التوتر بين الولايات المتحدة وإيران.
لم تعد قواعد الاشتباك القديمة تضبط جبهة الجنوب، وإن كانت حتى الآن لم تصل إلى الحرب الشاملة، لكن رغم بدء الحرب البرية الإسرائيلية واستمرار القصف التدميري لغزة، بقيت المعارك على جبهة لبنان ضمن خط الحدود، على الرغم من أن العمليات التي سجلت في الأيام الماضية تخطت الميدان لتكسر خطوط القرار الدولي 1701 وتنذر بتوسع دائرة المواجهة. وتشير المعطيات إلى أن المنطقة الممتدة على طول الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة باتت جزءاً من سياق معركة غزة ولم يعد ممكناً فصله عنها، إذ يتحرك “حزب الله” كطرف منخرط في الصراع مباشرة، فيصعّد على وقع التطورات في القطاع، ثم يتراجع لتقييم الوضع بالعلاقة مع قوى محور الممانعة ضمن غرفة عمليات وحدة الجبهات.
تشير الوقائع إلى أن الوضع في الجنوب بات مفتوحاً على كل الاحتمالات، فقبل معركة طوفان الأقصى هو غير ما بعدها، وفق الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الذي أعلن في خطابه الأخير أن حزبه هو في قلب المعركة ما دامت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد سحبت قسماً كبيراً من جيشها إلى الحدود الشمالية، وهو ما خفف الضغط على غزة. وبتأكيد نصر الله أن ما جرى في القطاع منذ عملية طوفان الأقصى هو معركة فلسطينية، لا يبدو أن جبهة لبنان مرشحة الآن للانفجار الشامل وفقاً لحسابات باتت معروفة، وليست مرتبطة بما يمكن أن يتحمله بلد مثل لبنان في حرب تدميرية، إنما بالعلاقة مع غزة وعدم السماح بكسر حركة حماس أو هزيمتها أو تهجير الشعب الفلسطيني.
أكثر ما يمكن ملاحظته في كلام نصر الله حول معركة غزة وجبهة لبنان، هو تركيزه على الدور الأميركي في الحرب، فهو وإن كان أعلن الانتصار في العراق مثلاً، إلا أنه وزع الأدوار لقوى محور المقاومة المرتبطة بإيران مباشرة، وبنفيه أي دور لطهران في عملية طوفان الأقصى الفلسطينية تماهى مع تبرئة الأميركيين لها من المشاركة، فيما الهجمات التي تنفذ في العراق وفي اليمن من قبل الحوثيين وحتى في سوريا تقودها قوى وميليشيات مرتبطة بإيران. وعليه بات واضحاً أن نصر الله حدد عناوين المعركة مع الأميركيين بالدرجة الأولى خارج جبهات التماس المباشرة مع إسرائيل، فمسرح العمليات في الجنوب اللبناني وإن كانت معركته تدور مع الاحتلال الإسرائيلي مباشرة، لكنه يندرج في سياق المعركة التي تتوسع لتطال دولاً أخرى في المنطقة على وقع العمليات التي نفذت في سوريا والعراق وأيضاً اليمن ضد القوات الأميركية، لكنها تبقى في حدود معينة وتواكب الاتصالات التي تجري في كواليس خلفية مباشرة أو غير مباشرة بين الأميركيين والإيرانيين.
الأمر لا يعني فتح الجبهات على مصراعيها دفعة واحدة، حتى جبهة الجنوب تبقى منضبطة على وقع الكلام المتداول من أن لا أحد يريد توسيع دائرة الحرب لتشمل كل الجبهات، فإسرائيل حتى الآن ليست في وارد فتح جبهة ثانية، خصوصاً مع اندفاع قواتها بالحرب البرية في القطاع، ولا “حزب الله” أيضاً الذي ينفذ عمليات على طول خطوط الجبهة من دون أن يستخدم ترسانته الصاروخية لفتح معركة شاملة، وإن كان يدفع كلفة باهظة في أعداد مقاتليه الذين سقطوا بقصف الطائرات المسيرة.
يتبين من كلام نصر الله أن المعركة في غزة طويلة ومفتوحة وفق تطوراتها على جبهة لبنان والجبهات الأخرى. لكن هذه المعركة تختلف عن حرب تموز (يوليو) 2006، وليس كما شبهها بها الأمين العام لـ”حزب الله” من أن الإسرائيليين لم يتعلموا من تجاربهم في مواجهة قوى المقاومة. فما حدث في غزة وضع إسرائيل في مأزق وجودي، ودفع الأميركيين إلى إدارة المعركة لإنقاذها في شكل لم يحدث إلا في الحروب الكبرى، لذا فإن حربها ضد “حماس” تستهدف الفلسطينيين على أرضهم برعاية أميركية مباشرة وتغطية دولية تسعى إلى إخراج إسرائيل من أزمتها وتأمين شروط انتصارها، وهذا ما يفسر القصف التدميري لغزة وقتل المدنيين بأبشع صوره. وإذا كانت إسرائيل لم تحقق حتى الآن ما يدل إلى كسر “حماس” في الحرب العسكرية، إلا أن ما يحدث قد يزيد من الجنون الإسرائيلي، ويدفع الأمور حتى لإشعال الجبهة مع لبنان، خصوصاً إذا رأى بنيامين نتنياهو أن هذا الأمر يشكل مخرجاً لمأزقه في محاولة لإنهاء الوجود المسلح على الحدود الشمالية، وإن كان لذلك مخاطر كبيرة قد تجر المنطقة كلها إلى الانفجار.
حتى الآن وفي ظل التخبط الإسرائيلي في غزة مع الرعاية الأميركية، لم تحقق إسرائيل إنجازات تعيد الاعتبار لجيشها، وفي المقابل لا يبدو “حزب الله” ومرجعيته في صدد شن حرب شاملة على جبهة لبنان، وفق تأكيد نصر الله في خطابه الأخير، وإن كانت المعركة مفتوحة على كل الاحتمالات في سياق التطورات في غزة. وقد بات واضحاً أن كسر “حماس” سيؤدي إلى تفجير المنطقة، وهو ما يضع إسرائيل أمام حرب طويلة ومأزق عسكري وسياسي، خاصة إذا تدحرجت الأمور على جبهة لبنان.
وجه نصر الله رسائل متعددة إلى الأميركيين، مشدداً على أن تفادي التصعيد في المنطقة يجب أن يكون في وقف العدوان على غزة، وأن أميركا يمكنها ذلك. ووجه تهديدات إلى الأساطيل الأميركية والجنود الأميركيين في المنطقة بأنهم سيدفعون ثمن استكمال الحرب. وبالتالي، على أميركا منع توسع الجبهات في المنطقة عبر الضغط على إسرائيل ووقف الحرب. كل ذلك يعني أن جبهة لبنان ستبقى على حالها ربطاً بتطورات غزة، فيما كل الكلام عن وضع لبنان لا يرقى إلى العنوان الأساسي وهو من ينقذه من حرب محتملة بصرف النظر عن أهدافها، أو من ينقذه من مغامرة بحسابات تتجاوز ما يحدث في غزة.
القرار في هذا الشأن بات لـ”حزب الله”، وهو يلتزم قرار مرجعيته الإيرانية في ضبط العمليات ضمن خطوط محددة، علماً أن الاحتلال الإسرائيلي أعلن شمال فلسطين منطقة عسكرية، وبالتالي أصبحت هي أيضاً ساحة عمليات للحرب. ولذا ينتظر الحزب ما ستؤول إليه التطورات في غزة وما ستحمله المفاوضات الدولية والقنوات الخلفية المفتوحة بين واشنطن وطهران، وهو ما يحدد ما إذا كانت هناك حاجة لتوسيع المعركة أو أن الحرب الكبرى سترحّل إلى مرحلة أخرى. لكن ما هو مؤكد أن لبنان بات جزءاً غير منفصل عن غزة، والكل ينتظر لحظة الانفجار الكبير…