ما أن انتهى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله من إلقاء خطابه الجمعة عن العدوان على غزة وموقف الحزب، حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تراوحت بين الهزل والتنكيت والإشادة والتبجيل والتقدير، وبعض التحليل المنطقي.
اللبنانيون كلهم خبراء استراتيجيون ومحلّلون عسكريون وسياسيون محنّكون، وكلهم ينطبق عليهم القول “موجة بتاخذهم وموجة بتجيبهم”.
الصحيح أنّ الخطاب كان متوقعاً بنسبة كبيرة، ولم يكن أحد يتصور أن يخرج نصرالله ليعلن الحرب على اسرائيل، وتبدأ على الفور راجمات الصواريخ بدكّ تل أبيب وتفجير مخازن الأمونيوم في ميناء حيفا واجتياح مستوطنات الجليل التي نقلت اسرائيل سكانها إلى الداخل. فما هكذا تُعلن الحرب وما هكذا يبدأها “حزب الله”. غالباً اسرائيل تبدأ الحروب إمّا رداً على عملية محدودة كما حصل في عدوان تموز 2006، وإما تفتعل حدثاً لتشن حرباً.
كان العالم ينتظر خطاب نصرالله الذي حظي بتحليل واسع على محطات التلفزيون العالمية والعربية والدولية. خبراء من كل الاتجاهات حلّلوا الخطاب، بعضهم بشكل منهجي وموضوعي وبعضهم انطلاقا من مواقف مسبقة، مؤيّدة ومعارضة، في سياق تطورات الأحداث الجارية مع الاخذ في الاعتبار نقاط الضعف ونقاط القوة التي أملت على نصرالله مواقفه.
ربما كان نصرالله من قلّة قليلة تعرف ما يجري وحتى إلى أين ستصل الأمور. هو على اتصال مباشر بالإيرانيين، وهؤلاء على اتصال بالأوروبيين وبالأميركيين، مباشرة أو غير مباشرة، وبالقطريين والروس وبقوى أخرى متابعة للحرب، عربية وغير عربية، وبالأخص بفصائل المقاومة الفلسطينية التي تخوض الحرب على الأرض.
نصرالله إذاً يعرف تفاصيل لا يعرفها المحلّلون وخطابه بُني عليها، وعلى معلومات الميدان والمعلن من المواقف.
ليس صعباً في قراءة خطاب نصرالله ملاحظة الحَرَج الذي يعانيه الحزب في التعاطي مع هذه الحرب. فلا الدخول فيها بفتح الجبهة اللبنانية قرار سهل ولا الوقوف موقف المتفرج سهل أيضا، لاسيما أنّ غالبية اللبنانيين هم ضدّ الدخول في الحرب، فالبلد لا يتحمّل حرب دمار شامل. وقد عكست التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي ارتياحاً لكلمة نصرالله رغم السخرية التي أبداها كثر من اشد المعارضين للحرب من المصنفين في البيئة المعارضة للحزب. لكن حقيقة الأمر أنّ الخطاب أرضى معظم اللبنانيين وأراحهم بعد ايام من الانتظار المشدود، ورفع عنهم ولو موقتاً شبح الحرب التي لم يستبعدها نهائياً، رابطاً إيّاها بتطورات غامضة ترك لنفسه أمر تحديدها لاحقاً، وبذلك أبعد عن نفسه مسؤولية قرار الحرب، رامياً ايّاها على إسرائيل “فإذا هاجمتنا سنكون جاهزين وسنردّ، ونحن عملياً في قلب هذه الحرب منذ يومها الثاني”.
طبعاً هذا الكلام قد لا يكون أقنع كثيرين ممن كانوا يتمنون خطاباً أكثر غضباً وإعلاناً واضحا عن انخراط أوسع في الحرب، وهؤلاء أصيبوا بخيبة أمل كتموها تجنبا للاحراج، لكن الرجل “ترك رِجلاً في البور ورِجلاً في الفلاحة”، كما يقول المثل اللبناني.
وجّه نصرالله رسائل إلى القريب وإلى البعيد. قال انّ إيران وجماعاتها لا دخل لهم على الإطلاق في بدء عملية “طوفان الأقصى”، مؤكّداً انّه قرار “حماس” مئة في المئة، لكنه تجنّب مجرد الإشارة إلى السجال القصير معها في الأيام الأولى، متجاوزاً ايّاه الى تبنّي العملية باعتبارها حقاً مقدّساً للشعب الفلسطيني. وهو وإن نفى أي مسؤولية لايران عن العملية لم ينف انخراط جماعاتها فيها لاحقا كالحوثيين والتشكيلات التابعة لها في العراق، من دون ان يذكر سوريا ودورها، وهو العالم بوضعها المأزوم، وربما أراد تحييدها او ربما تركها ورقة مخبوءة وغامضة للمستقبل، هو الذي ذكر الغموض كجزء من استراتيجيته، خصوصاً أنّ هناك حديثاً قديماً عن خلايا للحزب وإيران على حدود الجولان المحتل.
ذهب بعض المحلّلين الى إبراز نقاط ضعف في خطاب نصرالله، لكنه في الحقيقة كان واقعياً ونمّ عن مسايرة صريحة للرأي العام اللبناني خصوصاً، إذ إنّه في الوقت نفسه ترك كل الاحتمالات مفتوحة، بما فيها احتمال الحرب التي يعرف أيضاً أنّها لن تكون سهلة في ضوء الإعلان الأميركي عن الدخول مباشرة فيها، إذا فتحت جبهة لبنان، وهو قال للأميركيين مباشرة إنّه جاهز ايضاً لمواجهة بوارجهم رافعا من معنويات بيئته التي حرص أيضا على شد عصبها بعد تساؤلات كثيرة في أوساطها عن الثمن الذي دفعته حتى الآن في عدد الشهداء الذي فاق الخمسين وفي موجة النزوح من قرى المواجهة وفي احتمالات الخسائر المحتملة في المستقبل.
كان خطاباً منطقياً قياسا الى المعطيات الميدانية والى الواقع اللبناني المهترئ ولم يكن اللبنانيون يتوقعون أو يريدون أكثر من ذلك. ولقد عبّر أحدهم على مواقع التواصل بعبارة طريفة لكن معبّرة، تختصر مضمون خطاب نصرالله: “ما تهربوش بس ما تفضّوا الشنطة”.