راغدة درغام
من المبكر الحديث عن إعادة هيكلة الشرق الأوسط وعن حلول دائمة للنزاع الفلسطيني – الإسرائيلي. فهذه ما زالت مرحلة صياغة التفاهمات والترتيبات الانتقالية على ضوء مقايضات ودروس لحكومة إسرائيل وحركة “حماس” ومن ورائها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأذرعها. ما يمكن قوله الآن هو أولاً، إنّ هناك فرصةً جدّيةً للتهدئة والحلول الموقتة حصراً، يقابلها إمكان التأجيج غير المدروس والناتج من خطأ أو سوء نيّة لطرف ما خارج بوتقة اللاعبين الكبار.
ثانياً، إنّ إسرائيل لن تسترجع ما كانت تزعمه من هيبة وقوة عسكرية أو سياسية أو أخلاقية، بل عليها إعادة اختراع نفسها جذريّاً وجديّاً، فهي لن تكون آمنة بعد الآن ما لم تُدرك حقاً أنّ أمامها إما إيجاد حل مع الفلسطينيين أو توقّع تكرار لما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ثالثاً، إنّ “حماس”، بالرغم من نشوتها بالبطولية وقدرتها على تمزيق صورة إسرائيل العسكرية، فإنّها تخرج من هذه المواجهة أضعف وفي حاجة للإنقاذ، تلاحقها تهم استخدام المدنيين سلعةً لغاياتها السلطوية وعلاقاتها الإيرانية والإسرائيلية.
رابعاً، إنّ حرب غزة المؤلمة قد تحمل في طياتها مفتاحاً لصفقة اقليمية – دولية جديدة، ولنوع من التعايش، ليس فقط بين العرب والإسرائيليين وإنما أيضاً بين إيران وإسرائيل، عبر “ميكانيزم” للتواصل الأمني لتجنّب النزاعات.
وخامساً، إنّ اللاعبين الرئيسيين في المرحلة المقبلة من وضع خطة الوصول الى “سلام مستدام”، كما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، هم الولايات المتحدة بالدرجة الأولى والدول العربية الضرورية مثل السعودية التي تملك أدوات الضغط على إسرائيل، إذا أرادت الأخيرة فعلاً السلام مع العرب، وليس التطبيع بنسخته السابقة.
لطالما قيل إنّ “الصفقة الكبرى” grand bargain تأتي تقليدياً نتيجة لحدث ضخم يغيّر المعادلة. حدث 7 تشرين الأول فعلاً غيّر المعادلة لأنّه كشف وهناً هيكلياً في المؤسسة الإسرائيلية، العسكرية والاستخبارية. ثم أتت ردود الفعل الانتقامية لدولة إسرائيل من المدنيين الفلسطينيين في غزة، بإجراءات مدهشة تخالف القانون الدولي وتنتهك القانون الإنساني، لتغيّر الانطباع العالمي نحو إسرائيل وتطلق التظاهرات والاحتجاجات ضدّها. هذا بعد التعاطف معها في أعقاب عمليات “حماس” وإدانة ارتكابها مجزرة المدنيين الإسرائيليين، عربياً كما دولياً.
“حماس” لن تكون طرفاً في أية صفقة كبرى. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لن يكون جزءاً من الصفقة الكبرى، أو من أي نظام اقليمي أمني جديد. كلاهما حذف نفسه من المعادلة بالرغم من أنّ كلّاً منهما كان جزءاً من “الحدث” قبل “الصفقة الكبرى”. كل منهما سبق وخَدَم الآخر في علاقة “الشريك في الجريمة” accomplice التي انبثقت منذ نشوء “حماس” تحدّياً لحركة “فتح” و”السلطة الفلسطينية”، بمباركة إسرائيلية. اليوم، إنّ نتنياهو و”حماس” أضعف، وكلاهما عرقلة أمام السعي وراء “سلام مستدام”، لكنهما في هذه المرحلة الانتقالية ضروريان من أجل إتمام صفقة تبادل الأسرى والرهائن. وبالتالي، سيتمكنان من شراء الوقت حتى إشعار آخر.
إنما هناك تمييز ضروري بين مصير بنيامين نتنياهو ومصير “حماس”، بالرغم من أنّ القاسم المشترك هو صعوبة إزاحتهما عن المعادلة الآن. الشعب الإسرائيلي – وكذلك الولايات المتحدة – هو الذي سيقرّر مصير نتنياهو. أما “حماس”، فإنّ مَن يقرّر مصيرها ليس الشعب الفلسطيني بقدر ما هو إيران.
إيران رابحة لأنّها فرضت نفسها لاعباً في حدث 7 تشرين الأول من دون التورط في المسؤولية عنه. رابحة لأنّها أمسكت بورقة “حماس” من دون حرق أياديها بها، ولأنّها احتفظت بورقة “حزب الله” بخسارة “محدودة” تمثلت في مقتل أكثر من 50 عنصراً من “حزب الله” في اشتباكات ومناوشات بين الحزب وإسرائيل ضمن ما يُسمّى “قواعد الاشتباك”.
“حزب الله” و”حماس” يبحثان الآن في كيفية إيجاد مواقعهما القديمة في أوضاع إيران الجديدة. بكلام آخر، كلاهما يدرك أنّ إيران هي طرف في المباحثات وراء الكواليس- مع الولايات المتحدة بالدرجة الأولى ومع دول المنطقة الهادفة وراء نظام أمني جديد يكون لطهران صوت قوي فيه.
هذه أمور كبرى بين الدول وليس بين حركات وأحزاب تابعة لدول. لهذا فإنّ “حزب الله” و”حماس” يفكران في كيفية تجديد المستقبل وفي نوعية أداء كل منهما مستقبلاً بما يبقيهما على قيد الحياة في الوضع الإقليمي – الاستراتيجي الجديد، في ظل الصفقة الكبرى.
إيران هي الرابحة، لكن “حزب الله” و”حماس” ليسا خاسرين بمعنى أنّهما انتهيا. فإيران لا تريد إطلاقاً الانتهاء التام من أي منهما. لذلك، انّها تعارض سحق “حماس” وستمنع السحق بوسائلها الخاصة. أما في ما يخصّ “حزب الله”، فإنّه في اعتبارات إيران الاستراتيجية أداة تكميلية ضرورية لتموضع إيران الجديد. لذلك يبقى “حزب الله” في غاية الأهمية، وهي حريصة على استمرار أدائه على النسق الذي تريد.
الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله أحسن الإبحار بين الحرب والتحذير من الحرب war and war-ning بصورة جعلته يبدو أنّه يُمسك بزمام المبادرة. الحزب دفع ثمناً بخسارة عناصره- فهو دخل حرباً مع إسرائيل ضمن حدود قواعد الاشتباك. فعل ذلك بناءً على مشاورات وتعليمات من طهران وليس بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية. بل العكس، ضرب “حزب الله” سيادة الدولة بعرض الحائط، صادر طمأنينة المواطن اللبناني وارتهنها وفق توقيت السيد حسن نصرالله بين تغيّب وغياب وحضور غائب دمّر أعصاب الناس.
الأسوأ أنّ “حزب الله” شرّع الحدود اللبنانية – الإسرائيلية أمام “حماس” و”الجهاد الإسلامي” ومختلف الفصائل الفلسطينية المسلّحة الأخرى باسم توحيد ساحات وجبهات “المقاومة” وبانتهاك كلّي ليس فقط للسيادة وإنما أيضاً لإرادة الشعب اللبناني الرافض الانجرار إلى حرب “المقاومة” ليكون فدية المساومات والمقايضة.
فإذا كان السيد حسن نصرالله يبحث عن تجدّدية حزبه إزاء الانطلاقة الإيرانية نحو نظام أمني اقليمي جديد يحفظ لإيران مصالحها، أمامه اليوم فرصة طرح حزبه ككيان لبناني سياسي، لأنّ السلام الإقليمي ليس جاهزاً لاستيعابه كياناً مسلّحاً مخرِّباً لصالح “الحرس الثوري” الإيراني. إنّه وقت إعادة الحسابات.
هذا وقت تفكير قيادة “حزب الله” بالقاعدة الشعبية اللبنانية التي ترفض فكرة استقبال قيادات “حماس” وجناحها العسكري في لبنان، لاسيّما وأنّ المخيمات الفلسطينية باتت مخيمات مسلحين وليس مجرد مخيمات لاجئين.
إسرائيل تساوم مع مصر وقطر وتركيا ودول أخرى في شأن استقبال قيادات “حماس” التي ترفض إسرائيل الآن استمرار وجودها في غزة. هذه دول سيادية تقرّر حدود وجود قيادات “حماس” في أراضيها. أما لبنان، فلا سيادة دولة عليه بل إنّ “حزب الله” هو الذي يملي حدود السيادة وحدود وجود القيادات الفلسطينية ومسلّحي الفصائل الفلسطينية.
لا يكفي أن يتجاوب الأمين العام لـ”حزب الله” مع رغبة اللبنانيين، بل توسّلهم اليه، ألاّ يجرّ لبنان إلى حرب مدمِّرة كلياً وتقضي عليه، بامتناعه عن إعلان حرب مع إسرائيل. ما يقتضيه الأمر والصورة الجيوسياسية هو أن ترسم قيادة “حزب الله” موقعها في الداخل اللبناني بتجاوبٍ مع مطالب الناس، ليكون للحزب مكانة في المشهد السياسي لمستقبل البلد، وأن تدقّق في فوائدها لإيران في المشهد الإقليمي المقبل، حيث لن تكون هناك حاجة للحزب عندما تتفاهم الدول على نظام إقليمي أمني جديد.
حركة “حماس” اختارت مسيرة إنقاذ نفسها عبر التنازلات على مسار تدمير الذات. قبيل خطاب الوعد لحسن نصرالله يوم الجمعة الماضي تحرّكت “حماس” نحو الحل الوسط، معبّرة عن استعدادها للقبول بأقل من إصرارها السابق على قيام إسرائيل بالإفراج عن جميع سجناء “حماس”. أبلغت وسطاء أنّها جاهزة للموافقة على إفراج إسرائيل عن نصف السجناء مقابل إفراجها عن الرهائن لديها. طلبت بالمقابل وقف النار، وتوقّف إسرائيل عن تفكيك الحركة عسكرياً وسحقها سياسياً، في عملية ناجحة بالرغم من كلفتها الإنسانية الباهظة.
توقيت سعي “حماس” لإنقاذ نفسها من خلال إبداء المرونة بعث مؤشراً إلى “حزب الله” بأن يخفّض وتيرة التصعيد. عند كتابة هذا المقال لم يكن الأمين العام لـ”حزب الله” قد أدلى بخطابه المنتظر، واكتفى بحملة إعلامية ركّزت على صور أصبعه الشهير بالتهديد وخاتم خنصره. لم يكن واضحاً إن كان سيحذّر بحرب التهديد فلا يتوعّد بتوسيع الحرب، تجاوباً مع حاجة “حماس” للإنقاذ أو مع ما تريده إيران بالذات عشية وصول وزير الخارجية الأميركي إلى المنطقة.
فإيران تحجز مكاناً لها على طاولة إعادة هَيكَلة الشرق الأوسط أمنياً وسياسياً، وهي تعي أن لا مكان لـ”حزب الله” أو “حماس” على طاولة المفاوضات الكبرى للحلول الدائمة. بلينكن لمّح بأنّ لديه مشروع “السلام المستدام” إنما رحلته هذه في هذه المرحلة ركّزت على الترتيبات الانتقالية وتحديداً تلك المتعلقة بإطلاق سراح الرهائن، حتى وإن كان بالموافقة على حلول وسط تريدها “حماس”. هذا الى جانب كبح إسرائيل عن المضي بتدمير البنية التحتية الإنسانية في غزة بجرائم يمكن توثيقها كجريمة حرب، شأنها شأن جرائم “حماس”.
ما سعى وراءه بلينكن أيضاً هو تصوّر وضع غزة ما بعد حرب غزة- من سيديرها في غياب “حماس”، وهل سيكون في الإمكان وضعها تحت إدارة دولية – عربية موقتة الى حين وضوح خريطة طريق “السلام المستدام”.
“حماس” هي التي كانت أعاقت “حل الدولتين”، كما أنّ إسرائيل هي التي رفضته وأعاقته عمليّاً. فإذا نجحت إدارة بايدن بدفع إسرائيل ما بعد نتنياهو وما بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) إلى الرضوخ أخيراً إلى حل الدولتين، بشكل أو بآخر، ستستطيع أن تشق طريقها الى اختراق تاريخي في الشرق الأوسط، وإلى “سلام مستدام” مع كل الدول العربية- لربما باستثناءات طفيفة. بل إنّ إيران قد تكون المفاجأة بمشاركتها في الصفقة الكبرى التي تضمن لها مصالحها مقابل تخلّيها عن تعهدها بتدمير “الكيان الصهيوني”.
كل هذا قد يبدو اليوم سابقاً لأوانه، وقد تؤدّي التطوّرات المتهوّرة، سهواً أو عمداً، الى نسف فكرة “السلام المستدام” عن بكرة أبيها. لكن المؤشرات العملية والبراغماتية تفيد أنّ الدول العربية المعنية بالتطبيع مع إسرائيل مستعدة لمساعدة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على إيجاد الصيغة الضرورية لـ”السلام المستدام”، وأنّ إيران قد لا تكون بعيدة من أجواء “الصفقة الكبرى”. الأمر يعتمد على مدى عزم الولايات المتحدة على إقناع إسرائيل أنّ الوقت حقاً حان لاختيار “السلام المستدام”، وإلاّ فإنّ مفاجآت تشرين الأول ستلاحقها تكراراً، فتكون بذلك تساهم بتدمير الذات.