تفاوتت تقديرات بعض المحلّلين العسكريّين لحجم الصعوبة التي سيواجهها الإسرائيليّون خلال غزوهم لقطاع غزّة. بني هذا التفاوت على الزاوية الأساسيّة التي استند إليها التحليل. على سبيل المثال، لم يتوقّع الضابط البحريّ المتقاعد وعالم الإحصاءات في “كلّيّة الدراسات العليا البحريّة” هاريسون شرام وخبيرة محاكاة الحروب في “معهد التحليلات الدفاعيّة” ريغان كوبل أن تطول الحرب أكثر من شهر، مع إمكانيّة أن تستمرّ لبضعة أيّام وحسب.
مقارنة تاريخيّة… هل تصحّ؟
استند شرام كويل إلى مساواة الجيش الإسرائيليّ اليوم (نحو 360 ألف جنديّ) بالقوّات الأميركيّة وحلفائها (340 ألفاً) عشيّة الحرب على العراق واعتبار أنّ مقاتلي “حماس” (نحو 105 آلاف) ليسوا أفضل من الجيش العراقيّ حينها (نحو 400 ألف). ولفت الكاتبان إلى أنّ الجيش الأميركيّ سيطر على نحو 11 ألف كيلومتر مربّع يوميّاً (حتى إسقاط صدام)، أي ما يساوي 30 ضعفاً مساحة غزّة، ولهذا السبب، توقّعا أن تنتهي العمليّة الإسرائيليّة في وقت قصير جدّاً.
بالرغم من أنّ المقارنة تبدو منطقيّة من حيث بعض الأرقام، يبقى أنّها تُسقط من المعادلة عوامل أخرى مرتبطة بمسار الحرب. من جهة، قاتل الأميركيّون ضدّ جيش كلاسيكيّ، بينما يخوض الإسرائيليّون قتال حرب عصابات يحرمهم من حسم المعركة بمجرّد استهداف مركز ثقل أعدائهم (قواعد وأصول عسكريّة).
من جهة أخرى، لم يكن الجيش العراقيّ يمتلك طائرات بلا طيّار كتلك التي يمتلكها عناصر “حماس” اليوم. باتت هذه الأسلحة واسعة الانتشار وتُخضع الإسرائيليّين لمراقبة واسعة. أشار قائد القوّات الأوكرانيّة الجنرال فاليري زالوجني مؤخّراً إلى قدرة هذه المسيّرات على إبطاء تقدّم الجيشين الأوكرانيّ والروسيّ في مراحل مختلفة من الهجمات التي شنّها الطرفان.
علاوة على ذلك، لم يكن لدى الجيش العراقيّ أسرى أميركيّون يفرض بواسطتهم ضغطاً معنويّاً على الولايات المتحدة كما هي الحال اليوم مع “حماس” التي يعتقد الإسرائيليّون أنّها تملك نحو 240 رهينة. هذا إلى جانب أنّ عدم قدرة الإسرائيليّين على تحمّل خسائر بشريّة مرتفعة قد تشكّل عاملاً آخر يصبّ في مصلحة “حماس”. لكن على الأرجح، ثمّة فارق أكثر أهمّيّة بين “حماس” والجيش العراقيّ.
حين فقدوا الإحساس بالزمن
لم يكن الجيش العراقيّ يملك أنفاقاً بالغة التشابك والعمق كما يفعل مقاتلو “حماس”. تلك الأنفاق التي يقول قادة الحركة إنّ طولها يتخطّى ٥٠٠ كم ستجعل القتال في عمق الأرض بنفس أهمّية خوضه فوقها. ليس أمراً ثانويّاً أن يشبّه رئيس دراسات الحرب الحضريّة في “معهد الحرب الحديثة” في “الأكاديمية العسكريّة الأميركيّة” جون سبنسر الهجوم الإسرائيليّ بأنّه هجوم “”. وتوقّع قيام “حماس” بمناورة المهاجمين من تحت الأرض بواسطة الأنفاق إلى جانب استخدامها بشكل دفاعيّ للتنقّل بين المواقع والاحتماء من الكثافة الناريّة. وذكّر بأنّه في معركة الموصل، ساهمت الأنفاق التي بناها داعش خلال عامين فقط في تخصيص أكثر من 100 ألف مقاتل عراقيّ ليتمكّنوا من القضاء على التنظيم طوال تسعة أشهر.
وإذا كانت أنفاق الموصل واحدة من نقاط المقارنة الأكثر انتشاراً بين المحلّلين فإنّ العقيد الأميركيّ المتقاعد جو بوتشينو فضّل تشبيه ما سيواجهه الإسرائيليّون بما واجهه الأميركيّون في حرب فيتنام. حينها، حيّدت أنفاق الفيت كونغ التفوّق التكنولوجيّ الأميركيّ وحوّلت الصراع باتّجاه بيئة قتاليّة خانقة. ساعدت تلك البيئة المقاتلين على الظهور فجأة والاختفاء مجدّداً أثناء قتال الأميركيّين ممّا نشر جوّاً من جنون الارتياب بين الجنود.
وينقل الأستاذ الجامعيّ ومؤلّف كتاب “مكافحة الجهاد: التجربة العسكريّة الأميركيّة في أفغانستان والعراق وسوريا” برايان ويليامز أيضاً صورة قاتمة عن القتال في الخنادق مستمدّة من هذه التجارب كما من تجربة النازيّين الذين انهارت معنويّاتهم في ستالينغراد بسبب الأنفاق. وفي سنة 2014، أُرهِق الإسرائيليّون وهم يحاولون تدمير أحد الأنفاق حيث شعروا بأنّهم فقدوا الإحساس بالزمن كما شعروا بأنّهم تحت الماء لشدّة صعوبة التنفّس بينما تحدّث بعضهم عن مقاتلة “أشباح”.
خطّة إسرائيليّة مضادّة؟
يقوم تاريخ الحروب على تكيّف متبادل بين المدافعين والمهاجمين، في الاستراتيجيا والتكتيكات والأسلحة. من هنا، قد لا يعمد الإسرائيليّون إلى تكرار التجربة الفاشلة للاقتحام المحدود الذين حاولوا خوضه سنة 2014 والذي ساهم في قتلاهم إلى 66 قتيلاً.
اشار ويليامز، مؤلّف كتاب “مكافحة الجهاد”، إلى أنّ إسرائيل خصّصت وحدة هندسيّة خاصّة تدرّبت على أنفاق كلّفت 320 مليون دولار لبنائها كي تحاكي تلك التي بنتها “حماس”. تتألّف هذه الفرقة من “انطوائيّين” وتساعدها كلاب مدرّبة وروبوتات مع مجسّات لرصد الأنفاق والفِخاخ وتفجيرها، إلى جانب استخدام مراصد جاذبيّة ورادارات خارقة للأرض من أجل كشف الأنفاق. بالرغم من ذلك، هو ينقل عن المؤرّخ في جامعة تل أبيب هاريل شوريف تشديده على أنّ الميدان مختلف جدّاً عن التدريبات النظريّة كما تشكيكه بإمكانيّة نجاح الإسرائيليّين في اقتحام تلك الأنفاق.
لهذا السبب، يحتمل أن يكون هناك توجّه للاعتماد على إنهاك تدريجيّ لـ”حماس” يجنّب الجيش الإسرائيليّ خسائر كبيرة. بناء على مقابلات مع ثلاثة من كبار المسؤولين في الجيش الإسرائيليّ، ، العقيد الأميركيّ المتقاعد الذي خدم في الشرق الأوسط، أنّ الخطّة تستهدف التطويق والاستنزاف عوضاً عن الاقتحام الشامل. ستكون هناك إغارات محدودة ينتج عنها جمع للمعلومات الاستخباريّة. بطريقة تدريجيّة تمتدّ على أشهر، يوسّع الإسرائيليّون الجيوب المحتلّة مع انسحابات واقتحامات متتالية بناء على المعلومات وبإسناد من القوّات الجوّيّة مع ضرب للمولّدات وأنظمة التهوئة لإنهاك “حماس” وقادتها.
السؤال الأهمّ؟
لا يزال قسم من العوامل المحدّدة لمدى نجاح هكذا استراتيجيّة، إن كانت موجودة فعلاً، مجهولاً إلى حدّ بعيد. على سبيل المثال، وفي خضمّ موسم انتخابات رئاسيّة، هل تستطيع أميركا انتظار أشهر طويلة حتى تحقّق إسرائيل أهدافها؟ إلى الآن، لا تزال التباينات بين الطرفين مضبوطة، ويبدو أنّ للولايات المتحدة قدرة على الحرب الإسرائيليّة. لكن بمرور الوقت، من المعقول توقّع ازدياد الضغط الأميركيّ على الإسرائيليّين لوقف الحرب.
بالمقابل، يتوقّع الإسرائيليّون أن يخفّف هذا النهج من سقوط ضحايا مدنيّين. إذا طالت الحرب فعلاً فقد تصبح المعارك في غزّة أقلّ جذباً للأخبار العالميّة، ربّما بطريقة تشبه قليلاً ما حصل مع الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة. يمكن أن يخفّف ذلك حدّة الرأي العام العالميّ المناوئ للحرب الإسرائيليّة على غزّة خصوصاً إذا تضاءل عدد ضحايا القصف. مع ذلك، ليس هذا الرهان مضموناً. وسط علامات الاستفهام الكثيرة المتّصلة بالميدان في غزّة، قد لا يتمحور أحد أبرز الأسئلة حول ما إذا كانت إسرائيل تملك الخطّة للتغلّب على أنفاق “حماس” بل حول ما إذا كانت تملك الوقت الكافي لفعل ذلك.
