عَلَم فلسطيني صغير وَضَعهُ صانع محتوى فايسبوكي عربي على طاولة مطبخه لكي يواصل تصوير فيديوهات الطبخ دون إزعاج، ويُسكِتَ متابعين انتقدوا استمراره بعمله “رغم ما يحدث في غزة”.

يُشكّل هذا الشيف عيّنة من طيف واسع يَضمّ نشطاء وفنانين ومؤثرين ومتابعين فوجئوا بظهور حرب جديدة على قائمة المحتوى الافتراضي، فتباينت ردود فعلهم بين الاكتفاء بمشاهدة ونشر جرعات عالية من فيديوهات القتل والأسر والقصف، أو التعبير عن الذات باستخدام علامات ورموز، أو الانخراط في لعبة “تحليل وتحريم” ما يجب أو لا يجب فعله “دعماً لفلسطين”.

كوفيّة ورايات وأغاني لطالما رافقت فلكلورياً معظم الأحداث على امتداد ساحات “الصراع العربي الإسرائيلي” في زمن ما قبل ازدحام الشرق الأوسط بالدول الفاشلة. وبمرور السنين طرأت تحولات على وجه الصراع وأدواته، ولم يَعُد المُناصِر وجدانياً للقضية الفلسطينية يشعر بأنه عاجز، أو أن مهمته تنحصر بالاستماع إلى”منتصب القامة أمشي”، والاكتفاء بالفُرجة وشتم “الحكام العرب”. لقد انتقل مِن حالة المواطن المترقب في ظل دولته، إلى مرحلة “صاحب الحسابات في تويتر وفايسبوك” المتأكد من أنه “يستطيع”، والمتشكك إزاء حدود استطاعته وعوائدها عليه وعلى “القضية” سواءٌ بصفته فرداً يتألّم، أو محارباً افتراضياً “ضدّ الإعلام الغربي”، أو شخصية عامة يترقب الناس مواقفها.

وبينما بدا دَور وسائل التواصل الاجتماعي وصياغتها لعلاقة الجمهور بالحروب واضحاً في أحداث غزة المستجدة، بقيت علامة الاستفهام الأكبر هي قدرة الإسلام السياسي على فرض نفسه مجدداً (كمشروع معولم لا كمجرد حزب أو ميليشيا) رغم نتائجه الكارثية المعروفة. عمليات عسكرية ضيقة الأفق، واحتماء بالمدنيين، وربط المعارك بنبوءات دينية. كم مرَّةً عاشت المنطقة نتائج وصفة الخراب هذه؟ وكم مَرّة سيعيش المتابع هستيريا التأرجح بين بلحظتين: نصر خاطف ثم هزيمة مروعة؛ “مشاهدة احتراق بارجة” ثم” أنقِذنا أيها العالم من إسرائيل”؛ “بالموت جيناكم” ثم “يا وحدنا”؛ “دعس الشبيحة” ثم “الله وأكبر عليك يا بشار”؟!.

تجارب يَحفّها الخراب واللاجدوى عسكرياً وإنسانياً، وبدل أن تقود لموقف تفاوضي بالحد الأدنى فإنها  تدور في حلقات مفرغة تبدأ وتنتهي بمشاعر الأفراد، وتفرّخ مظلوميات لا تصل إلى مكان، وتصدّر  ضحايا ولاجئين وعلاقات عامة بين الناشطين، ومواد أولية لتصاميم الفوتوشوب وللكتب والأفلام. فكيف تحظى بشعبيّة بعد كل ذلك العبث؟

تُعدّ النزعات العروبية والإسلامية واليسارية في الشرق الأوسط مُحركاً أساسياً للتضامن الدائم مع فلسطين، وهو أمر مفهوم أمام قضية ذات تاريخ نضالي. لكن الورقة الفلسطينية أصبحت منذ زمن مجرد “مكسر عصا” للنزاعات الإقليمية، كما أن الفجوة داخلياً باتت كبيرة بين الشعب الفلسطيني وبين من يتحدثون باسمه. وعليه يصبح تهليل الجمهور (المتأسلم منه أو الكاره لليهود أو صاحب الدوافع الإنسانية) لعمليات “المقاومة” موضع تساؤل.

يَكمُن جزء من تفسير هذا السلوك في عامل مشترك يَجمع متابعين عرب بمقاتلين يرون بأنهم يُمثلونهم. هذا العامل عنوانه “شفاء الصدور”، وهو إن بدا مرتبطاً بالتراث فإن وظيفته أن يكون بديلاً للسياسة المنتجة لسلطة تمثل شعباً. بهذا المعنى فإن ما يربط الجالسين خلف الشاشات بمقاتلين يتباهون بالصواريخ هو تكريس العدميّة والعجز كمبرر لتحويل الانتقام إلى هدف وحيد. وبالتالي فإن عدداً كبيراً من المتضامنين مع “حماس” (باسم التعاطف مع غزة) جسّدوا عن قصد أو دون قصد معنى الآية القرآنية:” قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾، أي أن ما يسمى “طوفان الأقصى” كان وسيلتهم “لإزالة الغمّ والغيظ” لا أكثر، أكانوا متدينين أم علمانيين أم ملحدين.

لكن ألا يحقّ للإنسان الاحتفال بانتصاره؟ يحقّ بالطبع لو  كانت لكلمة “نصر” ترجمات واقعية تؤدي لتقدم معين ولو بعد حين. لا أن تُمهّد لمحو مُدن “المنتصرين” عن وجه الأرض، أو لمذابح دموية بحقهم، يليها تهجير قسري!.

تتمحورُ المسألة إذاً حول الاكتفاء بالثأر، فيصبح ممكناً بالنتيجة فَهم هياج جماهيري يستبدل السياسة بـ “الأخلاق” أيضاً. هنا ينبغي العودة إلى التعريف المبسط للإنسان بأنه حيوان أخلاقي (في إشارة إلى أنّ القِيَم الأخلاقية تُميّز البشر) بحسب الفليسوف الألماني إيمانويل كانط، بما يؤدي لطرح سؤال عن مدى إنسانية الاحتفاء بفعل ثأري (ولو بدافع من نوايا خيّرة) مع أنه سيقود إلى دوامة دمار عبثي!.

ثمّة ما هو أبعد. إنها “أخلاق الجماعة” القريبة بهذا المعنى من مفهوم “العقل الجمعي” والذي صاغ نظريته عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم، وضرب أمثلة على أدواره كما في نشأة الظاهرة الدينية حين كانت القبائل تجتمع لممارسة شعائر طوطمّية يزداد خلالها الحماس، فيمنح الجو الانفعالي المشاركين شعوراً بقوة مجهولة.

يدعم هذه المقاربة تحليل الظاهرة إعلامياً، نظراً لأنّ المتحمسين لـ”طوفان الأقصى” ظهروا وكأنهم مسكونون بتحدّي مَن يخالفهم، وهو ما جعلَهم “يدمجون موضوع الحدث بآرائهم، ثم آراءهم بتقييمات أخلاقية” فوجدوا ضالتهم في سيل عارم من فيديوهات “النصر”. والحال أن هؤلاء لا يشكّلون استثناءً في عصر وسائل التواصل، فالناس عموماً وأثناء بحثهم عن توجه يتبنونه في فضاء افتراضي “يفضّلون التخيلات على الحقائق” وفقاً للبرفيسور الألماني المختص في الإعلام نوربيرت بولتز. ولإيضاح وجهة نظره يستعين بولتز بمقولة:” نحن نريد أن نكون مخدوعين” (للمؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا)، ويستطرد شارحاً أسباب الاستقطاب الحاد لدى شريحة واسعة من مستخدمي فيسبوك وتويتر، حيث يتم استبدال النقاش بالمشاعر، ويصبح قول كلمة “لا” (بالتزامن مع تريند مثلاً) أمراً مكلفاً. ويضيف بولتز:” سابقاً كان الإنسان يخاف قول الأكاذيب، أما اليوم فإنه يخشى أن يبقى وحيداً مع رأيه”.

قد لا ينطبق تحليل كهذا مئة بالمئة على جمهور العمليات الجهادية. ومع ذلك فإنه يساعد في تكوين صورة عمّنْ يستبدلون الواقع بتخيلات عن صراع هوياتي، ويبخسون الكائن البشري قيمته فيستخدمون جثث الضحايا (بنوايا طيبة أحياناً) لإسكات الحقائق، أو للمفاضلة بين القضايا المستحقة للتعاطف، أو لاختيار القائد “المقاوم” صاحب الخطاب الأقوى والإصبع الأكثر هيبة.

سلوكيات تُحِيل إلى ما يشبه طقساً جماعياً يستثمر بالدمّ لصناعة فقاعات أخلاقية تعزل المقيمين داخلها عن المحاكمة العقلية، وتريحهم من البحث عن حجج منطقية. في النهاية تبدو كمعادلة “رابحة” ينفق فيها المتحمّس بعض المشاعر، ويكسب انتماءً لتيار مُهيمن يخوّله ممارسة سلطة افتراضية باسم مقاطعة منتجات، وتحديد “المسموح والممنوع” ومواعيد الفرح والحزن والرايات المرافقة بالحجم والمكان المناسِبَين.