نستيقظ وننام مغتبطين قليلاً من فكرة “كسبنا يوماً آخر بلا حرب”. مع ذلك، هي واقعة تقريباً على مسافة كيلومترات. إنها لصيقتنا ونكاد نسمع هديرها وغبارها يتساقط علينا تقريباً. ثم أننا معنيون جداً بفظائعها ووقائعها الدموية في قطاع غزة، ليس فقط لانحيازنا أو تعاطفنا، بل لأن آلة الحرب هناك تقترف ما يمكن أن تنزله فينا أيضاً في أي لحظة. إنه “كابوسنا الوطني”، إن جاز التعبير. نرى المشاهد المروعة ونُسقطها فوراً على أنفسنا كمرشحين جاهزين للمذبحة التالية.
وما يرسخ كابوسنا هذا، يوميات الجنوب اللبناني، بما فيها من قصف مدمِّر ومسيّرات قاتلة وغارات مرعبة وحرائق فوسفورية. فهي حرب حقيقية (ولو منخفضة الوتيرة) تحدث في بلدنا وتصيب ناسنا وبيوتنا وزرعنا وأحراجنا. نحن فيها وإن لم ننزل إلى الملاجئ بعد. إنها حرب بنظام التقنين المدروس، تُخاض باقتصاد خبيث وبضربات موضعية، لكنها فتّاكة جداً في الجسم اللبناني العليل والضعيف المناعة. وهي تبدو “مقدمة” أو تمهيداً لتكرار نكبة غزة، أو على الأقل لكارثة صيف 2006.
نستيقظ كل يوم ونمارس حياتنا على نحو طبيعي جداً، كما سائر الناس في أي بلد يعيش السلم. لكن أيضاً نقضي نهارنا نتقصى أخبار الجبهة المشتعلة بالصواريخ والمدفعية والطيران، وتحت وطأة أن حرباً شاملة قد تحدث في أي دقيقة. وفي مخيلتنا نوع من اليقين أن الأهوال التي تشهدها غزة قد نتلقى مثيلها.
كأننا عالقون هناك في “الليمبو”، ما قبل الجحيم ودون النعيم. في ذاك البرزخ الانتظاري المضني والمرير.
قسوة الانتظار اللبناني، أنه معقود على رجحان مجيء الحرب أكثر بكثير من حلول الخلاص. أي أننا ننتظر الحرب بوصفها مصيراً محتوماً، ليس بدافع التشاؤم ولا رغبة بها، بل لأن الصراع لا يبدو قابلاً الآن للحل، وشهية القتال عارمة عند إسرائيل، بقدر ما أن “المقاومة” ليس من شيمها الهروب من المواجهة والتحدي. ونميل للاعتقاد أننا في البداية وحسب، وعلى عتبة “المخيف”.
والحال، أن ما يزيد من بؤس انتظارنا هذا، أننا عاجزون وبلا قرار، فليس بيدنا أن نرتب مصيرنا الفردي والجماعي، ولا بيدنا الإقبال أو الإدبار. كما لو أننا كائنات مشلولة، ومجرورة إلى منصة الإعدام أو إلى المسلخ. لا يسعنا الاعتراض ولا أحد ينتظر رأينا. نحن هنا مشروع ضحايا حرب أو أبناء معجزة خلاص. لا ندري، ومن غير المسموح أن ندري.
نحن هنا حتى هذه اللحظة، نستيقظ كبشر أسوياء، ننطلق من بيوتنا إلى نشاطنا المعتاد، وننصرف إلى عاديتنا واهتماماتنا وأشغالنا، لكن تلك الغيمة السوداء اللعينة فوق رؤسنا تماماً، تلاحقنا ولا تنقشع. إنها تزداد يومياً كثافة واسوداداً وثقلاً وعلى وشك أن تندلع البروق منها.
في صيف 2006، بدا أن القسم الأعظم من اللبنانيين وجدوا أنفسهم إما محيّدين جغرافياً عن ميدان الحرب، أو غير معنيين بها وبتبعاتها وأهدافها. فتلاشى خوفهم الشخصي طالما أنهم “آمنون” نسبياً، واستأنفوا عيشهم كالمعتاد وكأن لا شيء يحدث من حواليهم.
أفضى هذا إلى الشعور بالمرارة والغضب عند الذين كانوا يكتوون بنيران الحرب. شعروا أن ثمة افتراقاً وغربة بينهم وبين باقي اللبنانيين. وسرعان ما تحول ذلك إلى إسفين سياسي فاقم الشرخ بين الجماعات اللبنانية.
هو المشهد إياه، حدث في صيف 1982. كنا نقول نحن المحاصرين في بيروت تحت القصف والغارات: “نحن هنا نقاتل ونموت ونواجه الغزو.. والآخرون يتمددون غير مبالين على الشواطئ، يتمتعون بملذات الصيف”.
يتوهم بعض اللبنانيين أن الأمر نفسه سيتكرر. خبرتهم السابقة تجعلهم يظنون أن جغرافيا الحرب معلومة عندهم، وميدانها محدد، والمستهدف فيها معيّنون مناطقياً وطائفياً، وأن بوسعهم ترتيب قوقعتهم أو أماكنهم الآمنة، وسيتدبرون مصاعب الحرب، كانقطاع الطرق وانهدام الجسور وشح المحروقات والغاز والأدوية، وأزمة الخبز وانقطاع كهرباء الدولة.. إلخ. فهم سلفاً اختبروا كل هذا، واحتاطوا له جيداً مراراً وتكراراَ.
ولذا، هم قلقون ومتعبون من حال الانتظار.. وليس من وقوع الحرب نفسها. فالانتظار السقيم هو وحده الذي يجمع اللبنانيين، ويمنحهم على نحو نادر “شعوراً وطنياً”.