ملخص
الحال أن هذا البعد الأخير الذي لا يمكن للقارئ إلا أن يلاحظه بقوة في “الطريق المظلم” يبرز بقوة في أعماق هذه الرواية التي عدت سياسية ونسوية وعائلية معاً كاشفة عن تلك الخلفيات البائسة التي كانت وراء تحقيق “المعجزة الاقتصادية الصينية” التي دفع مئات ملايين الصينيين، وبخاصة الصينيات، كلفتها الباهظة

صحيح أن عنوان تلك الرواية التي كانت من آخر ما صدر للكاتب الصيني المنشق ما جيان المقيم في لندن منذ بارح بلاده في صفقة تبدو حتى اليوم غامضة على عكس ما يحدث بالنسبة إلى عدد لا بأس به من الكتاب المنشقين في أنحاء عديدة من العالم، والعنوان هو “الطريق المظلم” سيبدو خادعاً في نهاية الأمر، وفي الأقل بالنسبة إلى المهمة التي ألقاها الكاتب، المولود عام 1953، عليه بل على أدبه بصورة عامة، لكن ثمة في الموضوع نفسه ما يفسر العنوان حتى وإن كان توظيف الرواية بالنسبة إلى الكاتب لا يوحي لنا بأن الظلام يحل هنا بكل قوته. ففي النهاية، لئن كان الطريق الذي تسلكه العائلة الصينية التي تشغل مساحة الرواية كلها، متنقلة في هربها من السلطات، مظلمة حقاً، بل تقدم صورة قد تبدو في نهاية المطاف مبالغة في تصوير الواقع الصيني، بل أكثر دقة من ذلك، الخلفية التي يمكن تلمسها والعثور في ثناياها ما يلقي الضوء على الحقيقة التاريخية لما يعد “المعجزة الاقتصادية الصينية” التي نقلت هذه الأمة من كونها واحدة من أفقر دول العالم، إلى وضعية تجعلها اليوم في المرتبة الثانية عالمياً في ترتيب أكبر الاقتصادات في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، إذاً لئن كان الطريق مظلماً فإن الأضواء التي تلقى من خلال سلوكها تبدو مشعة وكاشفة بالتالي، بأكثر مما تفعل مئات الكتب السياسية والاقتصادية وحتى الأيديولوجية الاجتماعية التي بدأت منذ سنوات عديدة، تغزو مكتبات العالم سعياً وراء توضيح يحمل إجابات منشودة على أسئلة “المعجزة”.

 

ونعرف طبعاً منذ زمن بعيد أن الأدب، سواء كان كبيراً أو صغيراً وواقعياً أم متخيلاً، يعبق بالحقائق من الداخل حتى بأكثر كثيراً مما تفعل الدراسات العالمة، وذلك بالتحديد لأن الأدب اعتاد أن يقدم الصورة من الداخل ليكشف حتى في انحيازه وتخيلاته واقعاً قد لا يكون الكاتب دارياً أنه يكشفه. غير أن ما جيان في “الطريق المظلم” يعرف ذلك هو الذي اجتمع لديه حافزان معاً: أولهما انطلاقاً من كونه الوريث الأشهر والأكثر أهمية لذلك الأدب الصيني الغاضب الذي يرصد مجتمعات هذه الأمة – القارة متسائلاً عما انحدر بها طوال القرن الـ20، وثانيهما من كونه هو نفسه من ضحايا ذلك الانحدار بانخراطه حتى رحيله عن البلاد في معارضة فعالة قربته أحياناً من حبل المشنقة. ومع ذلك لا يمكن القول إن أدب ما جيان أدب ذاتي أو أنه أدب همه أن يصف ما حدث له في مغامرته الحياتية المليئة بالمجازفات. ففي نهاية الأمر “الطريق المظلم” رواية عن حياة الكاتب بالتأكيد، ولكن من خلال مغامرة تلك العائلة الصينية البسيطة التي وجدت نفسها تدفع حصتها الكبرى من كلفة “المعجزة الاقتصادية الصينية”.

البحث عن صبي

كان كل ما تريده العائلة من “الحياة الرغيدة” الموعودة منذ سيطرة ماو تسي تونغ هو أن تتكون كعائلة، لكن المعضلة التي لم ترد الزوجة أن تؤمن بصوابها كانت أن السلطات الصينية في ذلك الوقت في زمن ما قبل انطلاق المعجزة كانت هي العقبة الرئيسة في وجه ذلك الطموح البسيط. فالسلطات التي لم تجد حلاً ناجعاً للوضع الاقتصادي الذي كشف عن إخفاق ثورتها الشيوعية، إلا في ذلك الحد من النسل الذي وصل في ذروة استشرائه إلى عدم السماح للعائلة بأن تنجب ما يزيد على طفل واحد، ولا سيما في المناطق الريفية، ثم بخاصة لدى بائسي المدن وسكان الأحياء الفقيرة، وهم الذين يشكلون الغالبية الساحقة من مئات الملايين من “المواطنين الرفاق” في الصين الماوية، ثم في صين “الثورة الثقافية”. والعائلة التي نحن في صددها في هذه الرواية لا تتألف من أكثر من رب البيت وزوجته وطفلة واحدة أنجباها في قريتهما الريفية، وها هي الزوجة تبدو غاضبة من جراء ذلك الواقع، تماماً كحال الزوج الذي يزيد من ألمه أن ما رزقا به في المرة الوحيدة المسموح لهما فيها بالإنجاب كان بنتاً وهو يريد ابناً!

عائلة من سلالة كونفوشيوس

والحال أنه كان في وسع الأمور أن تتوقف هنا كما يحدث في عشرات ملايين الحالات المشابهة في الصين، لكن ميلي، الزوجة الفلاحة الشابة تؤمن بالسلطات وبالأفكار التي تبثها هذه، فيما كونغزي زوجها، مدرس القرية، المنتمي ومن بعيد إلى سلالة كونفوشيوس، يريد ابناً ذكراً كي يؤبد تسلسل العائلة الكونفوشيوسية، بحسب ما هو معمول به في الصين، حيث يتولى ذكور العائلة فقط مواصلة السلالة. ومن هنا لا يجد الزوجان أمامهما سوى أن تحمل ميلي مرة أخرى، ولو في خفية عن السلطات وعيونها المنتشرة في كل مكان. وذلك مع الأمل في الحصول لاحقاً على التصريح الرسمي، غير أن الذي يحدث هو أن التصريح لا يصل، وهكذا عندما يقوم ضباط تحديد النسل بغزو القرية للقبض على أولئك الذين انتهكوا القواعد، لا يجد الزوجان وطفلتهما الوليدة مفراً من الهرب، وذلك بالنظر إلى أن الأيام كانت تمضي والطفل المنشود يتكون داخل بطن أمه بصورة لم يكن من الممكن معه إخفاؤها.

 

ويهرب الأب والأم والابنة إلى مناطق ضفاف نهر “يانغتسى”، إذ يبدأون تلك الرحلة الطويلة نحو الجنوب، الرحلة التي سيتابعها الكاتب عبر “الطريق المظلم” على رغم تلك الشمس الساطعة نهاراً والمضاءة بالنجوم ليلاً التي يخوضها الزوجان وطفلتهما على درب هربهم، ولا سيما في مناطق كان من المفترض أن تبدو لعين الناظر بديعة بالحضارة التي يمكن أن تستشف منها وبالمناظر الطبيعية المعهودة في تلك المناطق الخصبة من الصين، غير أن ذلك كله إنما يبدو على صفحات رواية ما جيان جزءاً من ماضي البلاد لا علاقة له بحاضرها، فالحضارات القديمة التي يفترض ببقاياها أن تطل على ضفاف “يانغتسي” لم تعد قائمة، بل حل بها الدمار. والبؤس يخيم على يوميات الناس الذين تلتقيهم العائلة الهاربة. كل شيء اليوم يبدو مدمراً إلى درجة قد يبدو معها لعربي من أيامنا هذه يمكن أن يجول في تلك المناطق أنه سيقول “الربيع العربي” مر من هنا.

بقايا أزمنة قديمة

فما ينتشر عبر المناطق التي تمر بها العائلة الصغيرة الهاربة، ليس سوى بقايا أزمنة قديمة حطمها الدهر والثورة، لكن كذلك الجوع والبؤس وتلك النظرات التي يصور فيها الكاتب رعب الإنسان عندما يلتقي أخاه الإنسان. رعب كل فرد من أن يكون الفرد الآخر الذي يلتقيه معيناً للحكومة. وهو نفسه الرعب الذي تعيشه الزوجة الحامل، ولا سيما حين يبدأ زوجها بالانقلاب عليها وتحميلها مسؤولية ما يحدث لهم، وكذلك رعب الزوج حين لا يعود في أيديهم ما يقتاتون به ويغذون طفليهما، البنت الوليدة والابن المنشود من طريق أمه التي استبد بها الهزال وقد راحت تعاني أنواعاً عدة من الرعب والظلم في الآن عينه. صحيح أن الزوجين تمر بهما أيام يحصلان فيها على وظائف صغيرة من حين لآخر، لكنها وظائف غريبة تفوقهما بؤساً وندرة إلى درجة أن الزوجين يجدان نفسيهما وقد تحولا إلى التسول وهما مجبران في الوقت نفسه على الاختباء من الشرطة. كل هذا بينما يستمر زوجها في الاستيلاء على جسدها كنوع من التعويض على استيلاء الشرطة عليه هو نفسه. من خلال ذلك يرينا ما جيان أن البطلة الحقيقية هنا إنما هي ميلي التي تقاوم مسعى زوجها للسيطرة عليها في وقت تسعى فيه الدولة للسيطرة عليه وفي وقت تكافح فيه هي من أجل استعادة السيطرة على حياتها وحياة طفلها الذي لم يولد بعد.

بؤس ثورة رأسمالية!

والحال أن هذا البعد الأخير الذي لا يمكن للقارئ إلا أن يلاحظه بقوة في “الطريق المظلم”، يبرز بقوة في أعماق هذه الرواية التي عدت سياسية ونسوية وعائلية معاً كاشفة عن تلك الخلفيات البائسة التي كانت وراء تحقيق “المعجزة الاقتصادية الصينية” التي دفع مئات ملايين الصينيين، لكن بخاصة الصينيات كلفتها الباهظة، من خلال ابتكار كاتبها المنشق الصيني ما جيان رواية مؤثرة يجد قارئها نفسه وفي كل صفحة، وتحديداً بحسب النقاد الأوروبيين، تحت سيطرة طبقات عدة من العنف الاجتماعي الذي قد يستحيل على المرء تصوره وهو يتابع ما يحدث في بلاد الثورة الاقتصادية الرأسمالية الكبرى في عالم اليوم.