Palestinians inspect the damage of destroyed buildings following Israeli airstrikes on Gaza City, Wednesday, Oct. 25, 2023. (AP Photo/Abed Khaled)

في عالم اليوم لا توجد قضايا شعوب عادلة مثل قضية الشعبين الكردي والفلسطيني، فكلا الشعبين تعرضا لظلم تاريخي كبير، ولا يزال هذا الظلم مستمراً. وإذا كان استمرار وجود الشعب الكردي في وطنه يخفف بعض الشيء من الظلم الذي تعرض له ولا يزال رغم فداحته، فإن الظلم المستمر الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني يبدو مضاعفاً، من جهة بسبب تهجير قسم كبير منه إلى خارج وطنه، ومن جهة ثانية بسبب نكران حق من بقي في العيش بسلام في إطار دولة معترف بها على جزء منه. كثيراً ما يتم تشبيه الظلم الذي تعرض له الشعب الفلسطيني بالظلم الذي تعرضت له الشعوب الأصلية في بلدان ما يسمى بالعالم الجديد. وبغض النظر عن صوابية هذه المقارنة، إلا أن السياق التاريخي لهذا الظلم يبدو متشابهاً إلى حد كبير.

عندما يجري الحديث عن القضية الفلسطينية نجد الكثيرين لا يريدون التفكير بها بعقل تاريخي بما يتضمنه ذلك من تتبع المراحل والوقائع والنتائج، من أجل فهمها وتصديق الأحكام التي تصدر بصددها، ويطالبون بضرورة التفكير فقط بعقل سياسي يشتغل على وقائع الراهن، وحسابات المصالح، وموازين القوة التي تخلقها وتحميها.

من منظار هذا العقل السياسي المزعوم لا جدوى اليوم من طرح الأسئلة حول كيفية إنشاء إسرائيل ومساره التاريخي، بدءاً من مؤتمر بال في سويسرا في عام 1897 مروراً بوعد بلفور، ومن ثم اقتسام التركة العثمانية وتوزيعها حصصاً على الدول الاستعمارية الأوروبية، والتي في سياقها، وكأحد نتائجها المأساوية فقدان الكرد لوحدة وطنهم، وتشريد قسم كبير من الفلسطينيين من أرضهم التاريخية، ومنحها للمستوطنين الجدد الذين تم جمعهم من مختلف دول العالم. ويتطرف هذا العقل ليقول من غير المجدي أيضاً التركيز على القرارات الدولية التي صدرت بخصوص القضية الفلسطينية، بل على تفهم ما تريده إسرائيل. واللافت أن طرح مثل هذه الأسئلة يعد هرطقة لا معنى لها عندما يتم طرحها بخصوص القضية الفلسطينية، لكنها تعد جوهرية إذا طرحت بخصوص المسألة اليهودية للتأسيس التاريخي لحقّ الإسرائيليين المزعوم في أرض فلسطين. إن الفصل بين التفكير بعقل تاريخي والتفكير بعقل سياسي هو فصل مصطنع لا يستقيم علمياً ولا منهجياً. إذ لا يمكن إنتاج معرفة صحيحة بأي قضية سياسية راهنة دون البحث في جذورها وأسبابها والقوى الفاعلة فيها ومصالحها، وهي جميعاً لها أبعاد في الزمان أي في التاريخ.

لنساير أصحاب التفكير بعقل سياسي ونقول كما يقولون: إن إسرائيل صارت حقيقة واقعة من وقائع الشرق الأوسط، وهي دولة معترف بها من أغلب دول العالم، وعضو في الأمم المتحدة، وفوق ذلك فهي دولة قوية ولديها سلاح نووي، ومدعومة من الدول الغربية. هذه وقائع سياسية لا جدال فيها بحسب أصحاب هذا التفكير السياسي، وينبغي بالتالي على الفلسطينيين والعرب عموما الإقرار بها. وبالمناسبة فإن جميع هذه الوقائع يتم تعزيزها باستمرار من قبل الدول الغربية. ونساير أكثر فنقول إن هذه الوقائع ما كان لها أن تحصل بالشكل الذي حصلت به لولا الدور الذي أداه الحكام العرب، وبعض القادة الفلسطينيين.

من جهة أخرى ورغم احتلال إسرائيل لفلسطين كلها فإن الشعب الفلسطيني لم يتوقف يوما عن النضال في سبيل تحقيق مطالبه الوطنية المشروعة التي اعترف له بها المجتمع الدولي، والتي تتمثل اليوم في إنشاء دولة له على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. بالطبع لم يكن سهلا على القادة الفلسطينيين، كما يقولون، القبول بالتخلي عن اغلب مساحة فلسطين التاريخية، والاكتفاء بمساحة الضفة والقطاع استجابة لما سمى في حينه بالعقلانية السياسية. ورغم ذلك فإن إسرائيل بدعم من أغلب الدول الغربية الفاعلة لم تقبل بذلك، بل اجتهدت للاستفادة منها لتهويد كامل الضفة الغربية، ومنع قيام أي دولة فلسطينية.

الفارق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتمثل في أن الإسرائيليين امتلكوا كل وسائل تحقيق أهدافهم ذاتياً وموضوعياً، بدعم من قبل الدول الغربية، رغم أن هذه الأهداف، في حقيقتها، لا تعدو كونها ذات طابع استعماري استيطاني. أما الفلسطينيون فلم يستطيعوا تحقيق أي هدف من أهدافهم الوطنية رغم مشروعيتها، لأسباب ذاتية وموضوعية أيضاً. يفسر البعض نجاح اليهود في حل المسألة اليهودية وتحقيق أهدافها بتحميلها على عوامل التقدم الحضاري الراهنة (الديمقراطية والحرية والعلم والتكنولوجيا)، في حين يفسرون فشل مسار القضية الفلسطينية بتحميلها على عوامل التخلف الحضاري (الاستبداد والتخلف العلمي والتكنولوجية والثقافة الدينية).  بغض النظر عن مدى الصواب في هذه الموازنة، يبقى الدور الحاسم في كل ذلك هو الذي أدته الدول الاستعمارية السابقة في حل المسألة اليهودية التي هي من حيث الأساس مسألة أوروبية، على حساب مصالح الفلسطينيين والعرب بصورة عامة، وهذا ما يعترف به ويقره كثير من المفكرين والسياسيين في هذه الدول ذاتها، وتثبت صحة اليوم أيضاً الفزعة الغربية غير المسبوقة لنصرة إسرائيل في حربها على قطاع غزة.

ويبقى السؤال: هل قدر النضال الفلسطيني في سبيل تقرير المصير هو الفشل دائماً؟ واشتقاقاً منه: هل إنشاء دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس مطلب مصيره الفشل أيضاً؟ للجواب عن السؤال الثاني، فإن التفكير السياسي العقلاني الموضوعي يقول نعم، ببساطة لأن العوامل الحاملة للمشروع الإسرائيلي لا تزال فاعلة وتتعزز، والعوامل الحاملة للقضية الفلسطينية لا تزال تزداد ضعفاً وتخلفاً.

أما الجواب عن السؤال الأول فهو استشرافي إلى حد كبير، لكنه الاستشراف الذي يستند إلى منطق التاريخ، الذي يقول بأن إسرائيل تعيش أزمة بنيوية، فهي غزوة من الغزوات التي تعرضت لها المنطقة عبر التاريخ، سوف يستمر وجودها زمناً سياسياً قد يطول أو يقصر، لكن مصيرها في النهاية الزوال كدولة عنصرية استيطانية ويبقى اليهود.

أما الفلسطينيون فهم في بيئتهم الحيوية الطبيعية يعيشون في أزمة تطورية في الوقت الراهن، ولعل أفضل تعبير عن قضيتهم اليوم هو القبول في العيش مع اليهود في دولة ديمقراطية علمانية موحدة كما كانت تطالب منظمة التحرير في بداياتها، فهل من خيار آخر لدى إسرائيل؟