REUTERS

“حماس” لديها ترخيص من روسيا لإنتاج رصاص الكلاشينكوف محليا

قُتل ما لا يقل عن ستة عشر مواطنا من روسيا جراء الهجوم الوحشي الذي شنته حركة “حماس” على إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكن موسكو لم تُدن “حماس” بشكل مباشر. وبينما يصنف الكرملين بعض خصومه السياسيين السلميين كإرهابيين، فإنه لم يطلق هذا التصنيف على الحركة الفلسطينية. وفضل الرئيس فلاديمير بوتين، بدلا من ذلك، أن يلقي باللائمة على السياسات الأميركية في الأزمة الحالية القائمة في الشرق الأوسط، وشبّه الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة بالحصار الذي فرضته ألمانيا النازية على لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، وهو أحد أكثر الحوادث إيلاما في تاريخ روسيا.

وفي هذا السياق، عرض بوتين خدماته للعمل كوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، بينما أشادت “حماس” بموقف الرئيس الروسي من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحسب تقارير صحافية روسية.

تربط روسيا بـ”حماس” علاقة طويلة الأمد وموثقة جيدا، لكن رد فعل موسكو على هجوم “حماس” يُظهر أنها تنحاز بشكل أكثر صراحة إلى طرف الجنوب العالمي في سعيها الرامي إلى تقويض النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. وهو النظام الذي وصفه بوتين في يونيو/حزيران الماضي بأنه نظام استعماري جديد قبيح يدنو من نهايته لمصلحة عالم متعدد الأقطاب.

نظر الاتحاد السوفياتي السابق إلى الشرق الأوسط طوال فترة الحرب الباردة من خلال منظور آيديولوجي صارم؛ إذ إن وكالة الاستخبارات السوفياتية التي كانت تُعرف باسم (KGB) مولت ودربت وجهزت الجماعات المتشددة المناهضة للغرب في المنطقة وقدمت المشورة لها، ومن ضمنها الجماعات التي كانت ترى في تدمير إسرائيل هدفا رئيسا من أهدافها. ولم يرتبط الاتحاد السوفياتي بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ حرب الأيام الستة في يونيو/حزيران 1967، وحتى أكتوبر/تشرين الأول 1991، أي قبل شهرين تقريبا من انهيار الاتحاد السوفياتي.
وطوال تسعينات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتبعت الحكومة الروسية نهجا أكثر مرونة. وقد سعت إلى إقامة علاقات جيدة مع إسرائيل، ونصبت نفسها كوسيط وانضمت إلى اللجنة الرباعية، وأدانت أعمالا ارتكبتها “حماس”. ومع ذلك، لم تُصنف “حماس” على أنها منظمة إرهابية. وفي فبراير/شباط 2006، وجه بوتين دعوة إلى زعيم “حماس” آنذاك خالد مشعل لزيارة موسكو، إثر فوز “حماس” على حركة “فتح” في الانتخابات التشريعية التي جرت ذلك العام. وفي أثر تلك الزيارة أشادت “حماس” بدعم موسكو؛ إذ كان الاعتراف بالشرعية أمرا مهما بالنسبة إليها.

 

وصرح مشعل لصحيفة “روسيسكايا غازيتا” الروسية خلال زيارته إلى موسكو في مارس/آذار من ذلك العام: “كنا نعلم علم اليقين دائما أنه سيأتي اليوم الذي يمكننا فيه زيارة عواصم العالم”. ونُقل عن وزير الخارجية الروسي آنذاك، يفغيني بريماكوف، في تصريح أدلى به في أغسطس/آب 2006 في قازان، قوله إنه يعتبر “حماس” منظمة إنسانية، لكنه يعترف بأنها تمتلك جناحا مسلحا يرتكب أعمالا إرهابية. ومنذ ذلك الحين، تلت تلك الزيارة زيارات أخرى لممثلي “حماس” إلى روسيا، وفي عام 2010 التقى مشعل بالرئيس الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيديف.
وقدم المسؤولون الروس سببين لتبرير حاجتهم إلى إقامة علاقات جيدة مع “حماس”: الأول هو وجود عدد من المواطنين الروس ممن يعيشون في غزة، وربما يصل هذا العدد إلى مئات عدة. والثاني وجود المركز الثقافي الروسي “كالينكا” في غزة، وهو يعمل تحت يافطة وزارة الخارجية الروسية، ولكنه في الحقيقة غطاء للاستخبارات الروسية. ومن جهتهم، ينظر السياسيون الفلسطينيون إلى روسيا باعتبارها ثقلا موازنا لثقل الولايات المتحدة.

 

وقد دعمت “حماس” المعارضة المناهضة للرئيس السوري بشار الأسد في سوريا عام 2011. وعلى الرغم من دعم موسكو للأسد، فإنه لم يطرأ تغيير على الموقف الروسي تجاه “حماس”، رسميا على الأقل؛ حيث أكد نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على سبيل المثال، أن روسيا لا تعتبر “حماس” (ولا “حزب الله” في هذا السياق) منظمة إرهابية. وسافر قادة “حماس” إلى قازان، عاصمة تتارستان، في سبتمبر/أيلول 2022، وإلى موسكو في مارس/آذار، وسبتمبر/أيلول من العام الجاري. ووفقا لوزارة الخارجية الروسية، فإن اجتماع مارس/آذار قد “تطرق إلى موقف روسيا الثابت الداعم للحل العادل للمشكلة الفلسطينية”. وكان مسؤولو “حماس” (والإيرانيون) قد زاروا موسكو مؤخرا يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول، عقب هجوم “حماس” على إسرائيل.

 دعم مادي

وجدت الأسلحة روسية الصنع طريقها إلى “حماس” على مدى سنين طوال. وفي مايو/أيار 2021، أجرى أسامة حمدان، القيادي البارز في الحركة، مقابلة مع صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية المعنية بتقصي الحقائق. وعندما سُئل عن مصدر هذا العدد الكبير من الصواريخ الروسية الصنع المستخدمة لمهاجمة إسرائيل، قال: “أعتقد أن الشعب الروسي يجب أن يفخر بأنه قدم لشعوب العالم المضطهدة أسلحة يمكنها بها الدفاع عن أنفسها. لقد تم إرسال هذه الأسلحة إلى منطقتنا في الستينات والسبعينات”.

 

ومن جانبها، قدمت روسيا بوتين، على أقل تقدير، الدعم المادي لـ”حماس”. ووفقا لتقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول، وجدت الجماعات الإرهابية المرتبطة بـ”حماس” طرقا للتحايل على العقوبات الغربية من خلال الاستفادة من عمليات تبادل العملات الروسية المشفرة. وقال “المركز الأوكراني للمقاومة الوطنية”: إن أعضاء من جماعة “فاغنر” شبه العسكرية شاركوا في تدريب مقاتلي “حماس” على “تكتيكات الهجوم واستخدام الطائرات المسيرة لإسقاط العبوات الناسفة على المركبات وأهداف أخرى”.
وقال رئيس الاستخبارات الدفاعية الأوكرانية، كيريلو بودانوف، إن روسيا زودت “حماس” مؤخرا بالأسلحة، لكنه لم يقدم أدلة تدعم هذه الادعاءات. وقال علي بركة، المسؤول الكبير في “حماس”، في مقابلة أُجريت معه وبثتها قناة “RT” الرئيسة في روسيا، إن “حماس” لديها ترخيص من روسيا لإنتاج الرصاص المخصص لبنادق الكلاشينكوف محليا، وأن روسيا “تتعاطف” مع “حماس”. وزعم أن هجوم “حماس” سيُدرس في الأكاديميات العسكرية الروسية.وليس ثمة دليل مباشر على تورط موسكو في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أو على علمها المسبق به وغض الطرف عنه. ولكن بوتين يستفيد من الفوضى الناجمة عن ذلك، ومن ضمنها إلهاء الغرب عن حربه التي يشنها على أوكرانيا. ومن المرجح أن ينتهز الفرصة لمفاقمة هذا الوضع، وذلك من خلال العمليات السيبرانية ضد القوات الأميركية، وحملات التضليل، واستخدام “فاغنر” لدعم الجهات الفاعلة الأخرى المناهضة لأميركا في الشرق الأوسط.

إن قيام “حماس” مؤخرا بالسماح لصحافي من “RT” بالوصول إلى شبكة الأنفاق التي يطلق عليها اسم “مترو غزة” يدل على أن الكرملين سيتمتع بفرص إضافية لدى الجماهير العربية لصياغة سردية للأحداث بما يتوافق مع أهداف الدولة الروسية.

 

 

وأشار بوتين نفسه، في وقت سابق، إلى أن الأسلحة الغربية المخصصة لأوكرانيا ينتهي بها الأمر في الشرق الأوسط من خلال السوق السوداء. وعلى الأرجح أنه قال هذا، في محاولة منه لتشكيل تصورات الجماهير العربية للوقوف إلى جانب روسيا في مواجهة أوكرانيا، والوقوف ضد الغرب بسبب دعمه لإسرائيل، وذلك لكي يشير إلى أن إسرائيل تستخدم الأسلحة الغربية ضد الفلسطينيين.

إنحياز بوتين

وقد يُفاجأ البعض باختيار بوتين حاليا الانحياز على نحو صريح إلى جانب “حماس” بعد أن كان قد عمل شخصيا على تعزيز علاقة روسيا بإسرائيل لفترة طويلة، وبالتالي تعريض صورته كوسيط قادر على التحدث مع كافة الأطراف في الشرق الأوسط للخطر. لكن حقيقة الأمر أن الكرملين ينظر إلى الشؤون العالمية من خلال منظور ضيق من المصالح المتضاربة، فلكي تفوز روسيا يجب أن تخسر الولايات المتحدة والغرب. إنها رؤية عالمية تمثل تحديا للنظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد طرح بوتين تلك النظرة على نحو علني من خلال غزو أوكرانيا، وهي الحرب التي صورها الرئيس الروسي باعتبارها معركة وجودية مع الغرب. وبغض النظر عن الجهود التي بذلها لتصوير نفسه كوسيط، فقد كان دائما ما يميل إلى الاقتراب من القوى المناهضة لأميركا في الشرق الأوسط. وقد تسارع هذا الاتجاه ببساطة بعد غزو أوكرانيا وأصبح أكثر وضوحا.
ومن المؤكد أن هناك مخاطر وتحديات تواجه بوتين حاليا في ظل تصاعد الصراع بين إسرائيل و”حماس”، وامتداده إلى بلدان أخرى، ولكنه عمل قبلا في ظروف غير مثالية. والأهم من ذلك أنه لم يدفع ثمنا باهظا بما يكفي لتغيير حساباته.

 

وبعد مرور نحو عام ونصف العام على غزو روسيا لأوكرانيا، تجنبت روسيا العزلة العالمية؛ فسردية موسكو عن الحرب تحظى بصدى خارج الغرب، وقد تمكنت من إيجاد سبل للتخفيف من آثار العقوبات خارج العالم الغربي. وفي ظل تقارب روسيا مع دول الجنوب العالمي بهدف الضغط لتقديم رؤيتها البديلة للنظام العالمي، سوف تسعى موسكو إلى الاستفادة من صرف الانتباه عن أوكرانيا في الغرب وتصاعد المشاعر المعادية لأميركا في الشرق الأوسط، لتمكين القوى المعادية للولايات المتحدة بتكلفة منخفضة بالنسبة إليها. بمعنى آخر، ستسعى موسكو إلى التصعيد مع الغرب، إما على نحو مباشر أو عبر وكلاء.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تبذل المزيد من الجهد لإقناع الشركاء غير الغربيين بأن رؤية روسيا للنظام العالمي هي رؤية خاسرة، ويتعين عليها التفكير على نحو خلاق في كيفية فرض التكاليف على موسكو بطريقة تحمل بوتين على تغيير حساباته الاستراتيجية، وتتلخص هذه الطريقة بجعل تكلفة التصعيد مع الغرب تفوق الفوائد المرجوة منه.