إحدى قصص مجموعتي القصصية الصادرة في عام ٢٠٠٥
القصة كتبتها في العام ٢٠٠٢
حدث هذا يوم حل الطوفان ببلداتنا.كان الغمر جادا بالوصول إلى ذؤابات الأشجار.عند منتصف الطريق إلى جبال عيبال، حاصرتني الدوامات.قاومت طويلاً قبل التسليم بعقم محاولات الإفلات.صارت المياه تبتلعني بأسرع مما أفعل .وبدأت تدريجياً أفقد الإحساس بالمكان.عند ذاك شعرت بيد ضخمة تنتشلني.لم أعاود الصحو إلا عند ارتطام رأسي بأرض السفينة.وشرعت بالتقيؤ.كان مراً وملحاً و…وذاكرة.
ملامح البحارة وشن لي بالتردد وعدم الارتياح.همهم أحدهم، بما يشبه الاعتراض:
-ولكن المرأة ستعيقنا سيدي الأميرال!
في حين علت صوت الآخر نبرة تحذير:
-أجل … فالأمر ينطوي على مغامرة دون جدال.
وهنا تدخل صوته آمرا وحازماً:
-الإبحار كان منذ بدء التكوين مغامرة، وهو حرفتنا التي نجيد.المرأة سترافقنا وأنت من سيهيئها يا نوار.
ربما كنت غفوت قليلا بسبب الإنهاك.صحوت عندما كانت السفينة تلقي بآخر مراسيها على ميناء جزيرة الأحزان. اتجه إليَّ نوار مشيرا أن اتبعه.
-إلى أين؟
سألت.
-جولة لا بد منها قبل عبورنا المحيط.
وزم شفتيه قبل أن يتابع:
– من يدري ؟ لعله آخر برٍّ تراه عيوننا قبل حلول الطوفان.
بدن الشمس حازمة في ذلك الهجير،ودونما تريث أو انتظار ، أرسلت بكل حممها في الأرجاء . استحال خط الأفق أحمرلما احتضن من عجاج.رائحة العفونة والزنخ ، تقاطرت إلينا من كل الجهات.الهواء السقيم يلفح وجوها بدت دونما ملامح.ترنو العيون إلى المجهول وهي تلهث، لتحمل في شهيقها حشرجات مذعورة. يوقف نوار حنطور صغيرا ويأمر الحوذي بالتوجه إلى السوق.
– إنني أكره الجوال في الأسواق، فهلا أعفيتني من هذا يا سيدي؟
قلتها بضيق مشوب بالرجاء.
رمقني الرجل ابتسامة ماكرة:
جولتنا لا تبغي التسوق،نحن هناك للاطلاع على الأحوال، هيّا لا وقت لدينا للجدال.
بدت الجزيرة أمامنا وكأنها خرجت للتو من براثن إعصار .وبدا الحوذي متعجلاً ،يضرب بعصبية ظهرجواده العجوز .هذر ببضع كلمات ، وهو يمر أمام أنقاض الزيتون . أشجار تكومت فوق بعضها البعض، لتكتم أنيناً بدأ بطول الطريق.تجاوز الحوذي،بسرعة، مشهد الدخان المنبعث من بين ثنايا الجدران . جدران تكسرت، فاتكأت على بعضها في شبه عناق. تساءلت بشيء من التردد والخوف. انتظرت دون أن ينم عن نوار أية إشارة بأنه يسمعني.كان وجهه محايداً وصارما ً.
– هنا من فضلك.
تناول البحار يدي وأنزلني على مهل.أصداء هرج مرج طالعتنا عند أبواب السوق.أصوات لقهقهات داعرة ، وأخرى لصرخات مكتومة، وبدا كأن الحشد أمام الأبواب في انتظار عرض وشيك.استطالت العيون لتصل إلى امرأة تصارع للوصول إلى منتصف الساحة، وقفت، وبدأت تفك ضفائرها ببقايا حنّاء افترشت الأرض، وشرعت تعفّر رأسها بالتراب. صوت بكائها كان أقرب للنواح.دارت حول نفسها متقافز
وشتمت بكلمات محرمة. سارع إليها أحد الرجال.بيمناه يطبق على فمها ،لتعيد يسراه بخفة الملاءة إلى جسدها.ترفسه المرأة بقوة. تطيح به أرضاً، لتصيح بأعلى صوتها: “أحسب أنكم ستنكرونني، كعادتكم، أيها الأوغاد .أنتم يا من اخترتم السير عمياناً، أتقولون انكم لا تعرفونني؟ كيف ذاك وأنا راحيل؟ راحيل ابنة بيت لحم وتخومها .راحيل التي أبت قبل ألفي عام أن تتعزى لأن أولادها ليسوا بموجودين…فها أنا ذي أعود من رحم الأحزان .أعصي هذياناتكم وتجديفكم “. وهنا صرخت المرأة صرخة عظيمة: “باطلة …باطلة …باطلة هي شرعة هيرودس التي بها تدينون ، وحقاً هي شرعة الرب الذي أعلنني أماً لكل حي.لا لست دودة أيتها الأفاعي.الدودة فقط من تنكر أبناءها .أنا حواء …حواء التي ما هللت يوماً إلا للحياة .ما الذي ذهب بعقولكم ؟ أبتم تستكثرون علينا حتى الأحزان؟ أنكون بنظركم أقل حظاً من القردة في الغابات؟ حتى القردة هناك تبكي الفقدان.كيف لي أن أفرح وأنا أراكم تتسابقون… تحملون أشلاءه قرباناً ، لتقدموه بخسة على مذبح هيرودس الذي لا يٌروى إلا بالدماء؟
الويل لكم…والويل لذاكرة تمحو الحروف الأولى للتكوين…أنسيتم أنني أول من أبدع الزغاريد على هذه الأرض احتفاءً بعرس الحياة؟”
تصمت المرأة من جديد…تبتسم وسط الدموع وكأنها تستدعي صورا غالية من البعيد، ثم بصوت يجلله الأسى:” أجل … له ، وله وحده، هللّت ، حين لم أك بعد أكيدة بأن يكون وأن أكون .صرخاته الأولى أكدت نبض الحياة في جسد خلته ميتاً لولاه …صرخات صيّرتني أنثى تتضوع بالحنان.صرخاته توجتني ملكة على أسرار الخلق.أسابق الزمن وأنا ارقبه يحبو ، ثم يخطو لأخطو معه بسرعة الملائكة ألى السماء. ألامس نجومها وأقمارها .أسمعها وهي تهزج على أصوات زغاريدي.أدس أصابعي في اللثة كل صباح.أجوبها بحثاً عن أولى الأسنان…مرحى …مرحى… هاي هي إذن!وقمح معجون معجون بالسكر والزغاريد للأحباب والجيران والأقران.ابتكر قصصاً وحكايات حتى ينام، أهديه العصافير ، أهديه الحمام. أودع في كلماته الأولى قلبي.كلمات تتعثر ، لكنها تعرف كيف تؤيدني له أماً . وظل السؤال يحتفي في ليلي المبهم: متى يكبر ؟ متى يكبر؟أرآه أحدكم يحمل حقيبة هناك؟ يمضي بها ببطء إلى دروب أحلامي.دفتراً وقلماً وكتاباً . أهذا كل ما رأته عيونكم الغلف؟ أحرز ما الذي خبأته هناك؟
غداً يكون وغدا يصير.أهمس سراً.يكون حكيما يداوي النائبات من أيامي.أطير فوق مساحات الزمن، فأراه عريساً يطل من علياء فرس أصيل… لا أرضى بأقل من فرس أصيل.اشتعل زغاريداً حين يحمله الأصحاب على الأكتاف…يعلنونه دون مراء زين الشباب عريساً.أشعل بخورا وأهرع للقياه.أحوطه بكلام الله وبكل ما قاله الأنبياء .
ها قد مضى الآن بحسب مشيئتكم، فهل اطمأنّت قلوبكم؟ وثكلى تمضي بي الحياة.افرحوا وتهللوا الآن “•
يجلل الجمع جدار ثقيل من الصمت،قبل ان تطلق صيحتها الأخيرة:”ألا كوني عاقرا نساء يبوس… كوني عاقراً من الآن وإلى أمد تصيرين فيه انت وثمرة بطنك (أور سالم) “
تنزع المرأة ثيابها.تلقي قطعة إثر أخرى، حيث وقف الجمع ثم:” أسمالهم هذه تعود إليكم… وعرايا كما خلقنا الله نعود .لنا دموعنا وكل ما أودع الله فينا، ولكم وحدكم مجد (هيرودوس) “.
تنسحب المرأة من المكان وهي تقفز على قدم واحدة، وبصوت شجي نائح:” أنا الفقدان …أنا راحيل… أنا الإنسان”!
لا ادري ما الذي قرأه نوار في وجهي حين نظر إليّ. شد على يديهم انزوى بي في مكان آخر من السوق .علمني طرقاً جديدة للتنفس.وتوجه بي نحو حشد آخر .كان الناس هناك يتدافعون .توقفوا قرب منصة كبيرة.خلفها وقف رجل ضخم الجثة .كان يصرخ بهياج فيتطاير من فمه رذاذ من الزبد …وبدا أنه على وشك إعلان .توقف عن الصراخ للحظات قبل أن يعاوده قائلاً :
– الجثة هي لابن داود .جثة تعفنت منذ سنين وتساوي ثلاثة آلاف من رجالنا، فمن يزيد؟
صرخ أحد الوقوف :
– بل بأربعة آلاف!
وعاود رجل المنصة :
– خمسة الاف مقابل جثة، مقابل كل رجالنا هناك.
على مقربة من المكان ، وخلف سياج شائك ، وقف بضعة رجال ملتحين.أعطوا إشارة الموافقة وتم التبادل .وأقيم على الضفة الأخرى حفل مهيب. حضره رؤساء ووزراء سابقون ولاحقون .ضباط وجنود وقفوا بمهابة وخشوع.أمَّ صلاة الجنازة ،رجال طريقة . رددوا بخشوع كامل:
“المجد كل المجد لك يا ابن داود .وإليك أيها الرب نرفع اليوم الشكر والعرفان …ولك يا من أعلنت قوامة شعبك ، فساويت بعدلك ، جثة عبدك، بخمسة آلاف من أعداء شعبك.لترعى أمتك، هكذا ودائماً الآن ،وفي كل أوان وإلى دهر الداهرين.آمين آمين”.
على الضفة المقابلة ، وقف الرجال يهزجون . هذروا بكلمات جللها الصخب.تحدثوا عن ذلك الإنجاز. تحدثوا عن البطولة والأبطال.عددوا المناقب والأمجاد .عرجوا على الأزمان الضائعة .استحضروا الأرواح .قرأوا قصائد عصماء.صلى أئمتهم صلاة العائد ، وفتحوا أبواب الملكوت.دخل منها كل من اختاروه ورقصوا رقص الدراويش. عادوا وقد علت وجوههم صفرة الأموات.وبدت أكتافهم تتهدل . أكاد أقع وأنا أرقب حركة الجموع.أفزعتني حركة الحشد التي بدت جوفاء ، تغذ السير نحو الضياع.يشتد بي الدوار .اتشبث بيد نوار .يعاودني الصداع .تستبد بي حاجة شديدة إلى التقيؤ.تحاصرني النظرات المستنكرة لنوار.يمسك بيدي ويمضي بي :
– توقعت كل هذا .كفى اليوم شره. غدا. سنواصل رحلتنا.
في طريق العودة ، أغمضت عينيّ ودخلت إلى قمرتي دون أن أضيء النور.ارتميت على السرير وقد هدّني الإعياء ،ورحت في نوم متقطع بانتظار فجر جديد قد يتأخر.