دقيقةٌ هي ملاحظة أن العملية العسكرية التي نفذتها حركة حماس ومعها أطراف أخرى مسلحة ومدنية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مستوطنات ما تسميه تل أبيب “غلاف غزّة”، أثبتت كم أن إسرائيل تجهل عن أعدائها. يكفي الاطّلاع على ما كانت تكتبه الصحافة العبرية قبل ذلك التاريخ عن القطاع المحاصر من جهاته الأربع منذ 16 عاماً، لكي يدرك القارئ كم كان القيّمون على دولة الاحتلال يتفاخرون بمعرفتهم تفاصيل ما يجري في حاراته وأنفاقه وفي عقول مسؤولي “حماس”. كذلك تكفي مراجعة الإعلانات الكثيرة عن ضبط خلايا عملاء وجواسيس في القطاع وإعدامهم لتكوين فكرة ولو تقريبية عن اتساع بنك معلومات إسرائيل التي فاتها إدراك شيءٍ عن نيّة تنفيذ عملية ضخمة كالتي حصلت، وقد جرى التحضير لها والتفكير فيها طيلة سنوات سبع بحسب ما سرّبه الإعلام العبري في إطار حملة جلد الذات التي يمارسها تكفيراً على ادّعاء معرفته.
لكن ماذا عن جهل الطرف الآخر بإسرائيل؟ مجموعة من الخلاصات تترتب عن تصديق أنّ عملية السابع من أكتوبر لم يتم إبلاغ إيران أو أي طرف آخر بها، وأنها كانت حمساوية مائة في المائة. أولها افتراض أن غرفة العمليات الضيّقة التي كان أفرادها يعلمون بالعملية وبموعدها، وضعوا كل سيناريوهات الردّ الإسرائيلي على الطاولة. فهل كانت “حماس” تتوقّع ردّاً ينتمي إلى معجم الإبادة كتلك الجاري ارتكابها منذ أكثر من شهر؟ إن فات القيّمين على الحركة التفكير في احتمال شنّ تل أبيب حرب إلغاء لشعب كامل ولمناطق إقامته المتبقية في فلسطين، فإنما المشكلة تكون جهلاً مُطبقاً بمن نتغنّى منذ عقود بمعرفتنا بمدى إجرامه وبأنه بمثابة الولاية الأميركية الواحدة والخمسين لشدّة دعم واشنطن له. في المقابل، سيعني افتراض أن “حماس” كانت تتوقّع ما ترتكبه إسرائيل من قتل جماعي وتهجير وتدمير شامل، أن هذه الحركة عدمية. لكن “حماس” ليست عدمية ولا أناركية ولا انتحارية، بل حركة تهمّها السلطة ويغريها الحكم الذي (كانت) تمارسه في القطاع و(كانت) تطمح إلى توسيعه نحو الضفة الغربية ومخيّمات اللجوء في الشتات بانتخابات وبغيرها.
كل الطرق تؤدي إلى نبع واحد: جهل “حماس” بإسرائيل وبدرجة إجرامها وبتوازنات القوى العالمية التي ستنتج عن عملية عسكرية كـ”طوفان الأقصى”، الكارثية في شمولها مئات المدنيين قتلاً وخطفاً، وبطريقة تفكير العقل الذي يحكم تلّ أبيب، وبأنّ الفلسطينيين في القطاع، ومن ضمنهم الحمساويون، سيكونون وحدهم ضحايا حرب الإبادة، يبدو ثابتاً بحقّ من خطط لعملية السابع من أكتوبر وقرّر تنفيذها.
إنّ تقليل عدد الفلسطينيين في غزّة إلى الحدّ الأدنى الممكن بالنسبة لإسرائيل، ينافس هدف القضاء على حركة حماس أهميةً. تهجير من أمكن من سكّان القطاع إلى أي مكان في العالم سيكون على جدول أعمال مباحثات “اليوم التالي” للحرب، لا لإعادة المستوطنات الإسرائيلية بالضرورة إلى القطاع، بل لأنه بهذه الكثافة السكّانية في هذه المساحة الجغرافية الضيقة، سيظلّ صعباً على إسرائيل ضبط غزّة وحكمها ولو عبر قوة وسيطة فلسطينية أو عربية. إن حقّقت إسرائيل هدفها من حرب الإبادة في غزّة بسهولة نسبياً، ستُفتح شهيتها لإنهاء الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس تهجيراً وسطواً رسمياً بموجب قوانين جديدة تُطبق على الأراضي والمنازل والمقيمين فيها. وقبل اعتبار التفكير في سيناريوهات أبوكاليبسية كهذه جزءاً من خيال هيتشكوكي، وجب تذكّر أن تصوّر ما يحصل اليوم من إزالة لمنطقة جغرافية اسمها غزة وشعب كامل فيها، لم يكن وارداً لدى أشد المتشائمين قبل أن تشنّ إسرائيل حرب الإبادة الحالية.
ذات يوم، قال حسن نصر الله عبارته الشهيرة “لو كنتُ أعلم” (عن حجم الدمار والقتل الإسرائيليين الناجمين عن عمليه حزب الله في يوليو/ تموز 2006). آنذاك، انقسم المستمعون حيال صدق اعترافه بجهله. خطابه الأسبوع الماضي أفاد بأنه لا يزال أميناً على اعترافه ذاك، على أمل أن يبقى عليه.